أكثر من مئة عامل وعاملة في مصنع "كادبري آدمز" أبلغوا قرار صرفهم من عملهم. عمل، أمضى البعض منهم 40 عاماً متواصلة في المصنع. صاحب العمل وجد أن لبنان لم يعد يحقق له ربحية عالية، فقرر نقل المصنع إلى مصر حيث الكلفة الإنتاجية أدنى، ما يدر إلى جيوبه أرباحا أكبر. لا أحد يستطيع أن يعترض على قرار الإقفال، حتى وإن كان الـ"لا أحد" هذا، هو ذاك العامل الذي دخل المصنع وهو شاب، وخرج منه قسراً عندما شاب. لهذا العامل يقال "حق الملكية الخاصة مقدس"، وبالتالي لا سلطة لأحد، مهما علا شأنه، أن يمنع صاحب العمل من الإقفال. أقصى ما يمكن فرضه هو تعويضات صرف أو تعويضات نهاية خدمة. للعامل المعطل قسراً عن العمل أخذ التعويض، واستثماره ربما في نمرة سيارة يعمل عليها ما تبقى من سنين عمره. أما الأكثر شباباً، فيمكنه الهجرة أو الالتحاق بجيش العاطلين المتأملين يوما بواسطة أحد زعماء الطائفة لتأمين فرصة تؤمن له ولأسرته بعضا من كرامة العيش التي تم انتزاعها منه.
لسان حال عمال وعاملات شركة "كادبري" يقول:" "نريد أن نستمر بعملنا"، وهو المطلب نفسه الذي ردده قبلهم عمال مصنع "أنابيب المستقبل" عام 2010 حين اعتصموا حاجزين على البضائع وعلقوا لافتة عملاقة على مدخل المصنع حين قرر مالكه إقفاله تقول: "خروج أرواحنا أهون علينا من خروج البضائع، من أجل الحق بالعمل". اللافتة بكلماتها البسيطة، بليغة بمعانيها. فالعمال يقولون بذلك أن الموت يهون أمام فقدان حقهم بالعمل، أمام امتهان كرامتهم وتضييع شقاء عمرهم. كما يقولون أن لهم أيضا الحق بتلك الملكية. فالبضائع المشار إليها هي أيضا بضائعهم، فهم الذين أنتجوها من تعبهم وعرقهم وصحتهم.
في لبنان، كما حال الأنظمة الرأسمالية أينما كان، توقف الحديث منذ زمن عن الحق بالعمل وعن الوظيفة الاجتماعية للملكية. وعكس الدستور والقوانين غلبة الملكية الخاصة للإنتاج على أولوية الحفاظ على مصادر العمل. الأمر الذي مكن أصحاب العمل أن يشردوا ويصرفوا العمال كما شاؤوا . ومما فتح المجال واسعا أمام التضحية بالأمن الاجتماعي والحق بالعمل على عرش الملكية الخاصة التي لا تعني سوى الحق في تغليب المصلحة الذاتية على حساب المصلحة العامة، ومصلحة عموم المنتجين. وبذلك، وبالعودة إلى حالة "كادبري"، لا يعود أحد يطرح السؤال كيف لصاحب العمل هذا الذي كدس أرباحا كبيرة طوال فترة تشغيله للمصنع في لبنان أن يحمل فجأة خسائره إلى المجتمع عبر صرف عماله وعاملاته وعائلتهم، متى قلّت نسبة الأرباح تلك؟ أين المسؤولية الاجتماعية التي على صاحب العمل هذا تحملها؟ لماذا يفرض على العمال والعاملات وحدهم مسؤولية تراجع الأرباح؟ لماذا يفرض على العمال والعاملات أن يكونوا شركاء في الخسائر حصراً، لا في الأرباح أيضاً؟
في إحدى مرافعاته دفاعاً عن عمال شركة "طنطا للكتان" المصروفين في مصر، عاد المحامي العمالي خالد علي، خلال توجهه إلى القاضي، مطالبا باستعادة الدولة لملكية الشركة بعد أن تم بيعها بأبخس الأثمان إلى مستثمر أجنبي، عاد إلى فلسفة القانون مميزاً ما بين التشريع العادي الذي ينظم العلاقة ما بين أطراف متساويين، وما بين التشريع الإجتماعي، الذي ضمنه تقع قوانين مثل قانون الضمان الاجتماعي وقانون العمل. قال خالد علي حينها: " في التشريع الإجتماعي على المشرع أن ينحاز إلى الطرف الأضعف في العلاقة ما بين طرفي النزاع، ولهذا سمي تشريعاً اجتماعياً، إذ ينظم علاقات اجتماعية. خاصة وأن العامل لا يمثل نفسه إنما يمثل من خلفه أسرة تريد أن تأكل وتشرب وتتعلم وتتطبب وتعيش بكرامتها".
لنا أن نسأل أي عامل أو عاملة في لبنان عن البعد الإجتماعي في القوانين، خاصة في قانون العمل، ليهزأوا من سخافة السؤال. مع كل حالة صرف فردية وجماعية للعمال، وقد تجاوزت الآلاف في بضعة سنوات، تطرح قضية تعديل قانون العمل كأولوية الأولويات لناحية تشديد القيود على أصحاب العمل. فليس من المعقول أن يكون حق صرف العمال مصاناً، فيما الحق الأساسي بالعمل ممتهنا إلى هذه الدرجة.
(المدن)
(المدن)
0 comments:
Subscribe to:
Post Comments (Atom)