"(...)إذا كنتم تظنون أننا سنقف مكتوفي الأيدي فهذا أمر من الخيال قد نضطر لحرق الأخضر واليابس(...) تريدون الفوضى فأهلاً وسهلاً بالفوضى. تريدون الحرب فأهلاً وسهلاً بالحرب. لا مشكل بالسلاح، ولا مشكل بالصواريخ(...)"
ماذا؟!...لا... ليس هذا تصريح ل"ميليشياوي" من العام 1975، بل هو مقتطف من خطاب أحد القادة اللبنانيين من دعاة "أولوية بناء الدولة"! وهو غيضُ من فيضِ الخطابات "الموالية" و"المعارضة" التي سممت أمزجة اللبنانيين وأعادت الى أذهانهم صورًا من زمن حربٍ وإقتتالاتٍ يريدون نسيانها...ولكن هل نسوها؟
مع إنتهاء الحرب الأهلية (منهم من يقول أنها حرب الآخرين على أرضنا، ولا ناقة للبنانيين فيها ولا جمل!) تم تنصيب شيوخ عشائرها وزعماء ميليشياتها أولياء أمورٍ علينا، ليتحولوا بقدرة قادر إلى مشايخ عشائر السلم. في ذلك الحين، تمّت مصالحة من فوق، على طريقة "تبويس اللحى"، و"عفا الله عن ما مضى". ولم تقترن المصالحة بأية مراجعة سياسية أو محاسبة للمسؤولين عن جرائم الحرب التي إرتكبوها . فكانت النتيجة أن بقي 17 ألف مخطوفٍ من دون كشفِ مصيرهم ، 300 ألف مجروحٍ ومعوقٍ و مليون مهجرٍ من دون تعويضاتٍ فعلية. أما الضحية الأكبر فكانت ذاكرة اللبنانيين التي قرّ القرار على شطبها.
هكذا، بدأت الحرب ومن ثم إنتهت وكأن شيئًا لم يكن، صدر قانون العفو (وهو القانون رقم 84/91، الصادر في 26 آب 1991، والرامي إلى منح العفو عن الجرائم المرتكبة على امتداد تلك الحرب وحتى تاريخ 28 آذار 1991) و أعفى المجرمين من جرائهم، لا بل كافأهم على تاريخهم ومنحهم أعلى المناصب في الجمهورية الثانية.
العفو العام والإفلات من المحاسبة
لقد تميزت حرب الـ 15 عاماً الأخيرة بمستوى قل نظيره من البشاعة ومجازر الإبادة والأعمال الإجرامية الأخرى. ويقول المحامي كميل داغر أن قانون العفو العام جاء ليمحو كل ذلك ويعيد الاعتبار لشتى رموزها، لا بل "ليتيح انتقال قادة الحرب من الخنادق والحواجز إلى أعلى مواقع الدولة الراهنة، وذلك من فوق مئات المقابر الجماعية، وأكثر من 150 ألف قتيل ومئات الألوف من الجرحى والمعوَّقين، فضلاً عن فضائح كبرى مشهودة من ضمنها توزيع مئات الأطنان من النفايات السامة على شتى أنحاء الأرض اللبنانية، ومن البحر إلى أعالي الجبال؛ عدا الاعتداء والسطو على الأملاك والأموال العامة، وشيوع فساد سلطوي قل نظيره في العالم بأسره". علماً أنه بعد مرور أكثر من 17 سنة على توقف تلك الحرب، لا زالت آلاف العائلات تسأل عن أبناء وإخوة وأمهات وآباء اختفوا، فلا تعرف شيئاً عن مصيرهم، وإذا كانوا قد قضوا ففي أي تربة دُفنت رفاتهم، ومن المسؤول عن ذلك؟ وضمن أي ظروف؟ ويتساءل داغر "إذا كان العفو العام يعني النسيان والغفران، فمن يمكن أن ينسى، ومن يحق له أن يغفر؟ وأي سلم أهلي يمكن أن يقوم على نسيان وغفران لا يقترنان بالحد الأدنى، على الأقل، من كشف الحقيقة، وضمان العدالة؟"
وفي هذا الإطار، تقول منظمة العفو الدولية International) (Amnesty أن قانون العفو «يكفل إفلات منتهكي حقوق الإنسان من العقاب»، من جهة، و«يمنع ظهور الحقيقة، من جهة أخرى»، مضيفة: «أن لبنان لن يعرف سلاماً حقيقياً ودائماً وأن حقوق الإنسان لن تحظى بالحماية إلا إذا واجه البلد ماضيه بإجراآت تتيح التحقيق في فترة الحرب وإظهار الحقيقة بخصوص الإساءات إلى حقوق الإنسان المرتكبة في إطار ما شهده من نزاعات».
هكذا، يمثُل العفو العام، إذا لم يقترن بمحاسبة وبإعتراف بأخطاء الماضي، قانونا يضمن بقاء النار تحت الرماد ويبقي على الصورة البشعة للحرب، وهي صورة مرشحةٌ للتكرار، بلا انقطاع، طالما يعاد بناء الوطن والدولة، مرة بعد أخرى، بالقيادات القديمة نفسها، التي كرَّسها اتفاق الطائف. وهي قيادات على أتم الجاهزية للعودة في أي لحظة للعب الدور الدموي عينه الذي لعبته من قبل. و ها هي اليوم لا تتوانى عن حشد النفوس طائفيًا ومذهبيًا ويترافق ذلك مع عودة العديد منها إلى التسلح. وهكذا... يقول كميل داغر "فإننا نجد أنفسنا في حلقة مفرغة: البنيان الطائفي للبلد وغياب المحاسبة ينتجان حروباً أهلية، تُمارس خلالها جرائم حرب بأقصى البشاعة، وانتهاكاتٌ مخيفة لحقوق الإنسان، تأتي بعدها مجرد استراحات تفتتحها قوانين عفو عام، وبالتالي انعدام المحاسبة والإفلات الجماعي من العقاب. وهو واقع يترك النار تحت الرماد، بحيث سرعان ما تهب عواصف جديدة تحثو الرماد وتعيد إضرام النار الباقية مرة واثنتين وثُلاثَ ورُباعَ".
يقول باسم شيت، وهو أحد الناشطين في حملة "المحكمة الشعبية" التي من أهدافها إلغاء قانون العفو، يقول: "لا مجال للسير قدماً إلا بعد المحاسبة على أخطاء وجرائم الماضي. فمن قتل شعبه في زمن الحرب لا يؤتمن على بناء السلم، من خطف وعذب بناءً على التفرقة الطائفية والعنصرية لا يمكن ومرفوض أن يكون هو من يؤتمن على بناء السلم الأهلي."
الذاكرة المجتمعية وضرورة للمحاسبة
أتى الطائف إذًا، ليوقف الحرب، ليعفي عن الماضي، فيعتبره عبثية تاريخية. وليحرر الميليشيات من الجرائم التي إرتكبتها وليكافأ أيضًا أغلبية أمراء الحرب ويضعهم على رأس النظام، يسيطرون على إعلامه، وزاراته، ومؤسساته الدينية وغير الدينية، وهذا ما مهد لهم القيام بعملية مسح للذاكرة المجتمعية. والذاكرة المجتمعية هي هويتنا الحية، هي من يعرّف عنا، هي من نحدد بها وجودنا وحياتنا وكياننا. وتدمير الذاكرة كانت ولم تزل أداة وسلاح بيد السلطة للسيطرة، وللقطع مع الماضي، فيصبح حكمها واقعاً مفروضاً. ومن الملفت هنا غياب كتاب تاريخ يدرُس الفترة الممتدة من العام 1975 الى العام 1990 كأنها حقبة أرادت السلطة إقتلاعها من ذاكرة اللبنانيين. هكذا تكبر أجيال لا تعرف عن تاريخها إلا الفتات، وهي بولائها لأحد الزعماء الأشاوس، عمياء، غافلة عن ماضيه الأسود، مستعدة لإعادة تكرار التاريخ لأنها، وبكل بساطة، لم تقرأه ولم تستفد من عبره.
إن عملية تدمير الذاكرة المجتمعية للشعب هي قمع واضح، هي الخطوة الأولى لبناء نظام شمولي، وكما يقول جورج اورويل في كتابه "1984"، وفيه يصف السلطة التوتاليتارية: "من يسيطر على الحاضر، يسيطر على الماضي، ومن يسيطر على الماضي يسيطر على المستقبل. إن الحرب الأهلية الأخيرة، وان رأى الكثيرون من أعلام السياسة إنها من الزمان الغابر، هي واقع مستمر بأشكال مختلفة؛ من استمرار التكتم عن المخطوفين والمفقودين، واستمرار آلام الضحايا المستمرين للحرب، من مهجرين ومَنْ فقد أهله وأقربائه، واستمرار اكتشاف المقابر الجماعية والتكتم عنها. الحرب لن تنتهي سوى بمعرفة كل الحقائق والوقائع التي تخيط حاضرنا.
أمام هذا الواقع ومحاولات السلطة التفلت من المحاسبة وتشويه الذاكرة الجماعية، لم يجلس المجتمع المدني اللبناني مكتوف الأيدي. فجمعية "أهالي المخطوفين والمفقودين" مثلاً لم تيأس منذ العام 1982 من المطالبة بكشف مصير من خطفوا على يد الميليشيات اللبنانية، ومنهم من سلُم الى العدو الإسرائيلي ومنهم من أرسل الى سوريا و منهم من قتل ودفن في مقابر جماعية، تلك التي تتستر السلطة عنها، ومنهم من رمي في البحر. والملاحظ في السنوات الأخيرة تزايد إهتمام جمعيات المجتمع المدني في هذا الموضوع في ظل غيابٍ شبه تام لدور الأحزاب حتى تلك التي تصف نفسها بـ"العلمانية" وبـ"اليسارية". وكانت المبادرة الأخيرة في هذا الإتجاه في 14 نيسان 2007, حيث تم إطلاق "المحكمة الشعبية" في إطار حملة "تنذكر تَ ما تنعاد ممنوع تنعاد" التي بادر إلى إطلاقها التجمع اليساري من أجل التغيير, إتحاد المقعدين, إتحاد الشباب الديمقراطي اللبناني, تيار المجتمع المدني, مركز الخيام لتأهيل ضحايا التعذيب, المنتدى الإشتراكي و مجموعة نحن.
والمحكمة الشعبية، كما يقول منظميها، أتت ردا طبيعيًا على تجاهل القضاء اللبناني للعديد من الدعاوى التي قدمت ضد مجرمي الحرب. كانت اولى هذه الدعاوى, تلك التي رفعت ضد خاطفي محي الدين حشيشو عام 1991 و ما يزال القضاء حتى يومنا هذا ينظر بهذا الإدعاء ولم يتقدم قيد أنملة في مسار تحديد المسؤوليات ومحاسبة المرتكبين. أما آخرها, تلك التي أوردتها جريدة الأخبار بتاريخ 8 أيار 2007 و المقدمة ضد رئيس القوات اللبنانية سمير جعجع من قبل أسرى محررين من السجون الإسرائيلية, فما كان من القضاء إلا أن رفض النظر بالدعوى مبررا رفضه بصدور قانون العفو.
وكان جعجع قد منح العفو بموجب القانونين رقم 677 ثم رقم 678، الصادرين في 19/7/2005، واللذين منحا، على التوالي، بمادة وحيدة، عفواً عاماً عن كل من قائد القوات اللبنانية، من جهة، والمجموعتين السلفيتين الضالعتين في أحداث الضنية ومجدل عنجر، من جهة أخرى. ويقول المحامي كميل داغر أن هذين القانونين هما "تعبير عن موازين القوى المستجدة، في ذلك العام وأيضاً حرص على الموازنة النسبية، والمقرفة، بين الطوائف، في إسداء «منحة» العفو هذه؛ وعن الدور الغالب للمراجع الدينية، في أعلى المواقع، بطاركة ومفتين وما إلى ذلك، وفي الوقت عينه للقوى السياسية والمالية المتنفذة، في النظام اللبناني – كما الحال مع زعيم تيار المستقبل، سعد الحريري – في فرض قرارات من هذا النوع، ستكون لها ارتدادات عكسية، من بينها التحاق جزء مؤثر من أعضاء المجموعتين السلفيتين المشار إليهما أعلاه بمنظمة فتح الإسلام، ومشاركتهم النشطة في حربها الأخيرة في الشمال اللبناني في مخيم نهر البارد".
تم إطلاق المحكمة الشعبية تحت شعار "نعم لإلغاء قانون العفو نعم لإنصاف الضحايا المستمرين للحرب" . خلالها تم الإستماع لعدد من ضحايا الحرب. فعلى سبيل المثال روت أم تيسير، بحرقة كبيرة، عملية خطفها على يد القوات اللبنانية هي وزوجها و أولادها الثلاثة, عام 1982 بعد مجزرة صبرا، وكيف إستطاعت الإفلات عند حاجز البربارة بعد تجريدها من آخر قرش تملكه. هناك عند هذا الحاجز بالذات ألقت النظرة الأخيرة على عائلتها, لتنطلق بعدها برحلة الألف ميل للبحث عنهم. أما مريم الصعيدي، فأصبحت "أم مخطوف" بعد أن تم أسر ماهر إبنها ذو الستة عشر ربيعا وستون شابا آخرين في كلية العلوم و تم بعد ذلك إرسالهم إلى المجلس الحربي ومن هناك إلى إسرائيل. وتتحدث مريم عن رحلة البحث عنه وما عانته من إضطهاد إلى جانب ست من أمهات المخطوفين. والجدير بالذكر أن هذه الجرائم تعتبر جرائم إخفاء قسري لا يشملها قانون العفو و لا يمر عليها الزمن وبالتالي يمكن محاسبة المدانين بإرتكابها. وللـ"المحكمة الشعبية" ثلاثة أهداف: أولاً إعلان الحقيفة وتحديد المسؤوليات في إرتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية خلال الحرب اللبنانية. ثانياً دفع مجرمي الحرب الى الإعتراف بجرائمهم والمطالبة بالتعويض عن ضحايا الحرب وبكشف مصير المخطوفين والمفقودين والمسجونين. ثالثاً، تحقيق المصالحة الفعلية لكي لا تتكرر الحرب.
ختامًا، في الذكرى الثامنة عشر على وقف إطلاق النار، الحرب لم تنتهِ بعد، الحرب ما زالت مستمرة وإن بشكل مختلف وهنا يأتي دورنا جميعاً، دور كل المتضررين من الواقع الراهن، الممزَّق طائفياً ومذهبياً – شاباتٍ وشباناً تنسد أمامهم آفاق مستقبل مضيء وواعد، سواء على مقاعد الدراسة أو في طور البحث عن العمل، وعاملاتٍ وعمالاً في كل مواقع الإنتاج. علينا جميعاً أن ننقل بلدنا من وضعه الراهن باتجاه تجاوز البنى الطائفية بالكامل، عندئذ يمكن أن يقوم مجتمع آخر، بالغ الشفافية، وقائم على المحاسبة الدائمة، حيث لا يعود في وسع أحد من المرتكبين من أسفل الهرم الاجتماعي حتى أعلاه، أن يفلت من العقاب. وحيث خطاب سخيف ومحرٌض كمثل ذلك الذي أوردناه في أول المقالة، يصبح وسيلة لإدانة ناطقه لا لتبجيله. علينا معًا التصدي لطبقة سياسية إرتأت بمعظمها أن تفشخ فوق كل المعطيات الجوهرية في التجربة الحية التي قاربناها حرباً وسلماً، لتهدي الينا في النهاية شبه بلد، وشبه سلم، وحاضر مشبوه، ومستقبل مشتبه به، في قعر ذاكرة مثقوبة! هكذا... "مش معقول الحرب تنعاد"!
Farfahinne