غياث نعيسة
"لا يمكن فهم المستوى السياسي إلا باعتباره مجال التنظيم الاجتماعي" - ج. م. فنسان ( الدولة المعاصرة والماركسية)
لم تعر الحكومة السورية في نهاية العام الفائت أدنى اهتمام بالاحتجاجات والمطالبات التي صدرت عن هيئات وشخصيات عديدة، ومنها المقربة لها، تطالبها بأن لا ترفع الدعم عن العديد من المواد الغذائية وأيضا عن المواد النفطية. بل قامت وبتعنت واضح برفع أسعار هذه المواد بشكل مذهل في بداية العام الجاري. وهذا ما كان متوقعاَ، فالحكومة السورية، بخلاف ما يعتقد البعض، هي من بين افضل تلامذة صندوق النقد الدولي والبنك الدولي في منطقتنا، وسياساتها في لبرلة متسارعة للاقتصاد السوري أثارت إعجاب هذه المؤسسات الرأسمالية الكبرى، لدرجة أن دبلوماسي بريطاني كبير أعرب عن إعجابه "بالإصلاحات الاقتصادية الجارية في سورية التي لا تلغي حقيقة وجود خلافات سياسية". في الواقع، إن التحولات الاقتصادية–الاجتماعية التي تشهدها سورية في السنوات الثمانية الماضية هي من الأهمية لدرجة كبيرة لأنها تمثل نموذجاَ لصيرورة انتقال إلى "اقتصاد السوق" توشك أن تنجز. وهذه العملية تمت بسرعة ملحوظة فاقت ما حصل في بلدان أخرى مجاورة مثل مصر أو غيرها. حقاَ، لقد جرى، خلال السنوات الماضية، نقل سورية من مرحلة "رأسمالية الدولة" إلى مرحلة دولة رأسمالية "متخلفة" تقليدية، ولكن وفق الوصفات الليبرالية الجديدة و"المتوحشة". و حققت الحكومة السورية هذا التحول الكبير بوتيرة عالية وبأقل ما يمكن من ردود الفعل الجماهيرية. ومن أهم سمات هذا التحول هو إنجاز السلطة لما يمكن أن نسميه "خصخصة" الطبقة المالكة السورية، ولا سيما الشق الأساسي منها وهو القسم "البيروقراطي" الذي راكم ثرواته من خلال النهب والفساد بفضل احتكاره للسلطة السياسية، وكان أقواها بفضل إضعافه لأقسام البرجوازية الخاصة منذ استلام البعث للسلطة عام 1963 ولغاية عام 1991 حيث بدأت بشكل خجول عملية تعزيز مواقع هذه البرجوازية الخاصة، من جديد، من خلال قانون الاستثمار رقم 10، مما سمح له بضخ أمواله واستثمارها مجدداَ في قطاعات التصنيع أو الخدمات أو التجارة، ليصبح هو نفسه قسم تقليدي من أقسام البرجوازية الخاصة. لهذا يمكن اليوم الحديث عن طبقة برجوازية خاصة سورية قوية متعددة الأقسام ولكنها طبقة سائدة ومالكة وحاكمة تشبه شقيقاتها في الدول الرأسمالية "المتخلفة"، بل قد تبز بقوتها وديناميتها شقيقاتها في دول عربية أخرى مثل مصر أو المغرب أو تونس... لا يمكن فهم هذا التحول الكبير، إلا إذا أخذنا بعين الاعتبار أن الطبقة البرجوازية السورية كانت – و ما تزال - بحاجة إلى سلطة قوية استبدادية لتحقيق هذه الصيرورة بالشروط التي وصفناها (والصين نموذج آخر لاستخدام السلطة السياسية في إعادة بناء البنية الاقتصادية-الاجتماعية). لأن سلطة قوية ومستبدة تسمح للبرجوازية الخاصة السورية بالاندراج في السوق الرأسمالية العالمية بمنافسة أقل وبشروط أفضل، من جهة، وبتكلفة أقل من الاحتجاجات الشعبية، من جهة أخرى. وهذا الأمر ما يزال عصي على فهم بعض النخب المعارضة الليبرالية السورية التي انشغلت في السنوات الماضية في نحت مفهوم "الهوية" ليتوصل بعضها – في نهاية المطاف - إلى أن كل مواطن هو في جوهره "هوية طائفية ومناطقية" مما عنى عندهم أن العمل التحالفي السياسي المعارض "الليبرالي جداً" إنما يقوم على لم شمل "الهويات الطائفية والمناطقية" في تحالفات فضفاضة و/أو مراهنة البعض الآخر منها على الوضع الدولي والإقليمي والقوى الإمبريالية وحلفائها الإقليميين كفاعل أساسي للتغيير "الديمقراطي" المنشود في سورية، مع يقينها شبه الديني بالسقوط القريب للنظام السوري. وما كان، في الواقع، لهذه النخب المعارضة "الليبرالية" المقموعة التي تنحدر غالبيتها العظمى من شرائح برجوازية وسطى وصغيرة، شكلت في العقود الماضية العماد الأساسي للنشاط السياسي ومنها أتى طاقم السلطة السياسية منذ استلام البعث لها وإقامته لشكل من أشكال رأسمالية الدولة، لتجد نفسها منذ نحو عقد في حالة "تآكل" اجتماعي وتهميش وتضييق لدورها السياسي، ما كان لها، وهي التي عانت وتعاني الأمرّين – ومنه الاعتقال التعسفي - من خلاف حقيقي وعميق مع السلطة (الليبرالية فعلاَ في سياساتها الاقتصادية والاجتماعية) سوى قضية المشاركة السياسية. لكن، ومع إثبات الوقائع المحلية والإقليمية والدولية مدى خطأ هذه النخب
"لا يمكن فهم المستوى السياسي إلا باعتباره مجال التنظيم الاجتماعي" - ج. م. فنسان ( الدولة المعاصرة والماركسية)
لم تعر الحكومة السورية في نهاية العام الفائت أدنى اهتمام بالاحتجاجات والمطالبات التي صدرت عن هيئات وشخصيات عديدة، ومنها المقربة لها، تطالبها بأن لا ترفع الدعم عن العديد من المواد الغذائية وأيضا عن المواد النفطية. بل قامت وبتعنت واضح برفع أسعار هذه المواد بشكل مذهل في بداية العام الجاري. وهذا ما كان متوقعاَ، فالحكومة السورية، بخلاف ما يعتقد البعض، هي من بين افضل تلامذة صندوق النقد الدولي والبنك الدولي في منطقتنا، وسياساتها في لبرلة متسارعة للاقتصاد السوري أثارت إعجاب هذه المؤسسات الرأسمالية الكبرى، لدرجة أن دبلوماسي بريطاني كبير أعرب عن إعجابه "بالإصلاحات الاقتصادية الجارية في سورية التي لا تلغي حقيقة وجود خلافات سياسية". في الواقع، إن التحولات الاقتصادية–الاجتماعية التي تشهدها سورية في السنوات الثمانية الماضية هي من الأهمية لدرجة كبيرة لأنها تمثل نموذجاَ لصيرورة انتقال إلى "اقتصاد السوق" توشك أن تنجز. وهذه العملية تمت بسرعة ملحوظة فاقت ما حصل في بلدان أخرى مجاورة مثل مصر أو غيرها. حقاَ، لقد جرى، خلال السنوات الماضية، نقل سورية من مرحلة "رأسمالية الدولة" إلى مرحلة دولة رأسمالية "متخلفة" تقليدية، ولكن وفق الوصفات الليبرالية الجديدة و"المتوحشة". و حققت الحكومة السورية هذا التحول الكبير بوتيرة عالية وبأقل ما يمكن من ردود الفعل الجماهيرية. ومن أهم سمات هذا التحول هو إنجاز السلطة لما يمكن أن نسميه "خصخصة" الطبقة المالكة السورية، ولا سيما الشق الأساسي منها وهو القسم "البيروقراطي" الذي راكم ثرواته من خلال النهب والفساد بفضل احتكاره للسلطة السياسية، وكان أقواها بفضل إضعافه لأقسام البرجوازية الخاصة منذ استلام البعث للسلطة عام 1963 ولغاية عام 1991 حيث بدأت بشكل خجول عملية تعزيز مواقع هذه البرجوازية الخاصة، من جديد، من خلال قانون الاستثمار رقم 10، مما سمح له بضخ أمواله واستثمارها مجدداَ في قطاعات التصنيع أو الخدمات أو التجارة، ليصبح هو نفسه قسم تقليدي من أقسام البرجوازية الخاصة. لهذا يمكن اليوم الحديث عن طبقة برجوازية خاصة سورية قوية متعددة الأقسام ولكنها طبقة سائدة ومالكة وحاكمة تشبه شقيقاتها في الدول الرأسمالية "المتخلفة"، بل قد تبز بقوتها وديناميتها شقيقاتها في دول عربية أخرى مثل مصر أو المغرب أو تونس... لا يمكن فهم هذا التحول الكبير، إلا إذا أخذنا بعين الاعتبار أن الطبقة البرجوازية السورية كانت – و ما تزال - بحاجة إلى سلطة قوية استبدادية لتحقيق هذه الصيرورة بالشروط التي وصفناها (والصين نموذج آخر لاستخدام السلطة السياسية في إعادة بناء البنية الاقتصادية-الاجتماعية). لأن سلطة قوية ومستبدة تسمح للبرجوازية الخاصة السورية بالاندراج في السوق الرأسمالية العالمية بمنافسة أقل وبشروط أفضل، من جهة، وبتكلفة أقل من الاحتجاجات الشعبية، من جهة أخرى. وهذا الأمر ما يزال عصي على فهم بعض النخب المعارضة الليبرالية السورية التي انشغلت في السنوات الماضية في نحت مفهوم "الهوية" ليتوصل بعضها – في نهاية المطاف - إلى أن كل مواطن هو في جوهره "هوية طائفية ومناطقية" مما عنى عندهم أن العمل التحالفي السياسي المعارض "الليبرالي جداً" إنما يقوم على لم شمل "الهويات الطائفية والمناطقية" في تحالفات فضفاضة و/أو مراهنة البعض الآخر منها على الوضع الدولي والإقليمي والقوى الإمبريالية وحلفائها الإقليميين كفاعل أساسي للتغيير "الديمقراطي" المنشود في سورية، مع يقينها شبه الديني بالسقوط القريب للنظام السوري. وما كان، في الواقع، لهذه النخب المعارضة "الليبرالية" المقموعة التي تنحدر غالبيتها العظمى من شرائح برجوازية وسطى وصغيرة، شكلت في العقود الماضية العماد الأساسي للنشاط السياسي ومنها أتى طاقم السلطة السياسية منذ استلام البعث لها وإقامته لشكل من أشكال رأسمالية الدولة، لتجد نفسها منذ نحو عقد في حالة "تآكل" اجتماعي وتهميش وتضييق لدورها السياسي، ما كان لها، وهي التي عانت وتعاني الأمرّين – ومنه الاعتقال التعسفي - من خلاف حقيقي وعميق مع السلطة (الليبرالية فعلاَ في سياساتها الاقتصادية والاجتماعية) سوى قضية المشاركة السياسية. لكن، ومع إثبات الوقائع المحلية والإقليمية والدولية مدى خطأ هذه النخب
المعارضة "الليبرالية" في رهاناتها، فإنها تجد نفسها حاليا في طريق مسدود.
click on the poster bellow to continue reading this article
1 comments:
Subscribe to:
Post Comments (Atom)
يااااه
سوريا؟
سوريا كمان؟
على فكرة انت مدونتك حلوة قوي وباعرف منها حاجات كتير
اشكرك على الموضوع القيم ده
الحقيقة اخر حاجة انت اتصورها ان سوريا كمان تبقى رأسمالية
هو احنا ايه القرف اللي احنا بقينا عايشين فيه ده
حاجة تغم