Comrade Fawwaz on the political economy of Lebanese immigration, «الصندوق الأسود» للهجرة اللبنانية
Posted by Farfahinne at 10:49 PMفواز طرابلسي
سوف تظل فاجعة طائرة الخطوط الجوية الإثيوبية تخيّم بظلالها السوداء على لبنان واللبنانيين لوقت ليس بالقصير. وسوف يقضي اللبنانيون وأهل الضحايا أياماً وأسابيع بحالها يحدقون في أمواج بحر غضوب قاتل لا يرحم. يستنطقونه جثة أو خبراً أو صندوقاً أسود يجيب عن سؤال: لماذا حصل ما حصل. وعلى أبواب المستشفيات من ينتظر نتائج فحوص الحمض النووي. أما الكثرة من أهل الضحايا فمحكوم عليها بأن تنضم إلى قافلة أهالي آلاف المفقودين ممّن لا يصدّق أن الحبيب الغالي قد قضى إلا بعد أن يتعرّف الى جثته أو بقاياه.
توقظ مثل هذه الفواجع في نفوس اللبنانيين موضوع الهجرة. بل قل تفتح جراحاً باتت تنزّ منذ قرن ونصف القرن من الزمن أو أزود.
للهجرة اللبنانية تاريخ طويل وصندوق أسود ومفارقة غريبة في التعامل معها. «من صخر وشذى أرز كفايتهم/ زنودهم، إن تقلّ الأرض، أوطان»، تباهي فيروز بالجبليين المهاجرين، من شعر سعيد عقل. كل شيء مسخّر لتغييب دافع الضرورة والحاجة المعيشية. يستبدلها بطبيعة اللبناني المغامرة جوّاب الآفاق وبالإرث الفينيقي، هذا قبل أن تضاف إليها العوامل النفسية كالإحباط أو حجز الحريات والاحتلالات وما شابه... إلخ.
في المقابل تعلن لوعة الأم وهي تنفصل عن عناق ابنها عند باب المسافرين في المطار حقيقة أن الشباب اللبناني يهاجر بالدرجة الأولى لأنه لا يجد عملاً وأن المستقبل مسدود في وجهه. في لبنان نظام اقتصادي ـ اجتماعي، محروس بالسياسة والتشريعات والقوة، يهجّر الفائض من سكانه. بل إن لبنان هو البلد الأكثر اتكالاً على تصدير العمالة للخارج في العالم. وهي فرادة لا نُحسد عليها. لأن ما نصدّره هو أغلى ما نملك ـ الإنسان ـ ويستورد الأيدي العاملة الرخيصة من الجوار وصولاً إلى أقاصي آسيا وأفريقيا.
لم يتحوّل الاقتصاد اللبناني من اقتصاد منتج إلى اقتصاد ريعي بفعل الطبيعة ولا تلبية لروح المغامرة ولا قضت به عوامل نفسية ولا ضربات القضاء والقدر. بل كان من صنع طبقة من المستوردين والمصرفيين والوسطاء حوّلته إلى اقتصاد تجارة وخدمات ووساطة مالية وخدمية، وهي قطاعات لا تستوعب إلا الحدود الدنيا من النمو السكاني ومن الوافدين إلى سوق العمل، ما دفع ويدفع الباقين إلى الهجرة.
في زمن ما، كانت تحويلات المهاجرين تكفي لتأمين توازن ميزان المدفوعات وموازنة الدولة. لكن الآن، على الرغم من أن 40% من القوة العاملة اللبنانية موظفة في الخارج، فإن تحويلات المغتربين إلى لبنان بالكاد تكفي للتعويض عن تحويلات العمالة الوافدة المحوّلة إلى خارج البلاد. ولقد كان تجاور عاملات إثيوبيات يعملن في لبنان ومغتربين لبنانيين ذاهبين أو راجعين إلى أفريقيا، في الطائرة الفاجعة، ذا دلالة رمزية على جدل تصدير الشباب اللبناني واستيراد العمالة الوافدة هذا.
بهذا المعنى، لبنان بلد فقير. ليس لأن الثلث من سكانه يعيش تحت خط الفقر. ولا لأنه ينتمي إلى نادي الدول ذات المديونية الأعلى في العالم. لبنان فقير بالقياس إلى ما يتمتع به أغنياؤه من ثروات، وخصوصاً بالقياس للحجم الفلكي من عشرات المليارات من الدولارات المودعة في مصارفه. ولا يتحرّج الناطقون باسم المصارف من الاعتراف بأنهم ليسوا يدرون ماذا يفعلون بفائض السيولة هذا. نحن نعرف، أقلاً، أنهم يوظفون الثلث في الخارج، والثلث الثاني مخصص لتسليف القطاع العام (70% من الدين العام)، والثلث الثالث هو تسليفات للقطاع الخاص، يذهب معظمها إلى قطاعي العقارات والخدمات. ويصل منه لقطاع الزراعة، التي يعيش عليها 20 في المئة من اللبنانيين، أقل من الواحد في المئة. أخيراً وليس آخراً، في لبنان فائض من السيولة بأيدي رجال الأعمال فيه بحيث بات حجم توظيفاتهم الخارجية يعادل إجمالي توظيفاتهم داخل لبنان.
وليس من المبالغة في الأمر بشيء أن يقال إن هذا الفائض من السيولة هو المسؤول الأول عن تهجير اللبنانيين. لا حاجة للحديث عن وقف الهجرة هنا. يكفي الحديث عن الحد من النزف والسيطرة عليه. لكن كيف يتم ذلك في ظل نظام وحكومات لم تبد مرة اهتمامها بتنمية القطاعات المنتجة المستوعبة للعمالة، أو بالعمل على زيادة فرص العمل في كافة قطاعات الاقتصاد؟ كيف ونحن نعلم أن 60% من الوافدين إلى سوق العمل هذه السنة مصيرهم الهجرة أو البطالة. ومع ذلك، تضج البيانات الوزارية بالوعود بتنمية القطاعات المنتجة وزيادة فرص العمل، ولا تحوي بنداً واحداً عن سبل تحقيق ذلك والمهل الزمنية.
وأي نقاش هو هذا الدائر حول إعطاء المغتربين أو عدم إعطائهم الحق في الانتخاب؟ ألم يحصلوا عليه بعرق الجبين، والتضحيات، والطرد من البلدان المضيفة، بغض النظر عن الحسابات الطوائفية الضيقة؟
وكيف الحدّ من الهجرة في ظل نظام تعليمي، بالجامعات الاثنتين والأربعين المرخصة والعاملة، بات هو نفسه معداً لإنتاج المغتربين والعاملين في أسواق العمل العربية أو الدولية؟
أسئلة لطبقة سياسية أنتجت حكومتها التوافقية المسماة «حكومة الإنماء والتطوّر» بياناً وزارياً يعد بتنمية القطاعات الإنتاجية وتطوير فرص العمل.
بالمرصاد.
وفي الانتظار، أنتم حرّاس نظام يتخلّص من الفائض السكاني بالتهجير؟
في رواية «بدايات» لأمين معلوف حوار فاجع ومعبّر بين أخوين. واحد ينوي الهجرة والثاني يستبقيه يقول له: ابقَ هنا، لنغيّر الأوضاع. لا يزال الخيار هو هو: الهجرة أو التغيير، مع فارق أن الهجرة هي الآلية الرئيسية التي تفرّغ البلد من طاقات التغيير.
هذا هو السر المودع في «الصندوق الأسود» للهجرة اللبنانية: الهجرة هي صمام الأمان للنظام الريعي الطوائفي القائم. وإلا... فالتغيير. التغيير الجذري بجذرية اقتلاع أجيال وراء أجيال من اللبنانيين من أرضهم ومن بين أهلهم والأحباب.
Fawwaz.traboulsi@gmail.com
سوف تظل فاجعة طائرة الخطوط الجوية الإثيوبية تخيّم بظلالها السوداء على لبنان واللبنانيين لوقت ليس بالقصير. وسوف يقضي اللبنانيون وأهل الضحايا أياماً وأسابيع بحالها يحدقون في أمواج بحر غضوب قاتل لا يرحم. يستنطقونه جثة أو خبراً أو صندوقاً أسود يجيب عن سؤال: لماذا حصل ما حصل. وعلى أبواب المستشفيات من ينتظر نتائج فحوص الحمض النووي. أما الكثرة من أهل الضحايا فمحكوم عليها بأن تنضم إلى قافلة أهالي آلاف المفقودين ممّن لا يصدّق أن الحبيب الغالي قد قضى إلا بعد أن يتعرّف الى جثته أو بقاياه.
توقظ مثل هذه الفواجع في نفوس اللبنانيين موضوع الهجرة. بل قل تفتح جراحاً باتت تنزّ منذ قرن ونصف القرن من الزمن أو أزود.
للهجرة اللبنانية تاريخ طويل وصندوق أسود ومفارقة غريبة في التعامل معها. «من صخر وشذى أرز كفايتهم/ زنودهم، إن تقلّ الأرض، أوطان»، تباهي فيروز بالجبليين المهاجرين، من شعر سعيد عقل. كل شيء مسخّر لتغييب دافع الضرورة والحاجة المعيشية. يستبدلها بطبيعة اللبناني المغامرة جوّاب الآفاق وبالإرث الفينيقي، هذا قبل أن تضاف إليها العوامل النفسية كالإحباط أو حجز الحريات والاحتلالات وما شابه... إلخ.
في المقابل تعلن لوعة الأم وهي تنفصل عن عناق ابنها عند باب المسافرين في المطار حقيقة أن الشباب اللبناني يهاجر بالدرجة الأولى لأنه لا يجد عملاً وأن المستقبل مسدود في وجهه. في لبنان نظام اقتصادي ـ اجتماعي، محروس بالسياسة والتشريعات والقوة، يهجّر الفائض من سكانه. بل إن لبنان هو البلد الأكثر اتكالاً على تصدير العمالة للخارج في العالم. وهي فرادة لا نُحسد عليها. لأن ما نصدّره هو أغلى ما نملك ـ الإنسان ـ ويستورد الأيدي العاملة الرخيصة من الجوار وصولاً إلى أقاصي آسيا وأفريقيا.
لم يتحوّل الاقتصاد اللبناني من اقتصاد منتج إلى اقتصاد ريعي بفعل الطبيعة ولا تلبية لروح المغامرة ولا قضت به عوامل نفسية ولا ضربات القضاء والقدر. بل كان من صنع طبقة من المستوردين والمصرفيين والوسطاء حوّلته إلى اقتصاد تجارة وخدمات ووساطة مالية وخدمية، وهي قطاعات لا تستوعب إلا الحدود الدنيا من النمو السكاني ومن الوافدين إلى سوق العمل، ما دفع ويدفع الباقين إلى الهجرة.
في زمن ما، كانت تحويلات المهاجرين تكفي لتأمين توازن ميزان المدفوعات وموازنة الدولة. لكن الآن، على الرغم من أن 40% من القوة العاملة اللبنانية موظفة في الخارج، فإن تحويلات المغتربين إلى لبنان بالكاد تكفي للتعويض عن تحويلات العمالة الوافدة المحوّلة إلى خارج البلاد. ولقد كان تجاور عاملات إثيوبيات يعملن في لبنان ومغتربين لبنانيين ذاهبين أو راجعين إلى أفريقيا، في الطائرة الفاجعة، ذا دلالة رمزية على جدل تصدير الشباب اللبناني واستيراد العمالة الوافدة هذا.
بهذا المعنى، لبنان بلد فقير. ليس لأن الثلث من سكانه يعيش تحت خط الفقر. ولا لأنه ينتمي إلى نادي الدول ذات المديونية الأعلى في العالم. لبنان فقير بالقياس إلى ما يتمتع به أغنياؤه من ثروات، وخصوصاً بالقياس للحجم الفلكي من عشرات المليارات من الدولارات المودعة في مصارفه. ولا يتحرّج الناطقون باسم المصارف من الاعتراف بأنهم ليسوا يدرون ماذا يفعلون بفائض السيولة هذا. نحن نعرف، أقلاً، أنهم يوظفون الثلث في الخارج، والثلث الثاني مخصص لتسليف القطاع العام (70% من الدين العام)، والثلث الثالث هو تسليفات للقطاع الخاص، يذهب معظمها إلى قطاعي العقارات والخدمات. ويصل منه لقطاع الزراعة، التي يعيش عليها 20 في المئة من اللبنانيين، أقل من الواحد في المئة. أخيراً وليس آخراً، في لبنان فائض من السيولة بأيدي رجال الأعمال فيه بحيث بات حجم توظيفاتهم الخارجية يعادل إجمالي توظيفاتهم داخل لبنان.
وليس من المبالغة في الأمر بشيء أن يقال إن هذا الفائض من السيولة هو المسؤول الأول عن تهجير اللبنانيين. لا حاجة للحديث عن وقف الهجرة هنا. يكفي الحديث عن الحد من النزف والسيطرة عليه. لكن كيف يتم ذلك في ظل نظام وحكومات لم تبد مرة اهتمامها بتنمية القطاعات المنتجة المستوعبة للعمالة، أو بالعمل على زيادة فرص العمل في كافة قطاعات الاقتصاد؟ كيف ونحن نعلم أن 60% من الوافدين إلى سوق العمل هذه السنة مصيرهم الهجرة أو البطالة. ومع ذلك، تضج البيانات الوزارية بالوعود بتنمية القطاعات المنتجة وزيادة فرص العمل، ولا تحوي بنداً واحداً عن سبل تحقيق ذلك والمهل الزمنية.
وأي نقاش هو هذا الدائر حول إعطاء المغتربين أو عدم إعطائهم الحق في الانتخاب؟ ألم يحصلوا عليه بعرق الجبين، والتضحيات، والطرد من البلدان المضيفة، بغض النظر عن الحسابات الطوائفية الضيقة؟
وكيف الحدّ من الهجرة في ظل نظام تعليمي، بالجامعات الاثنتين والأربعين المرخصة والعاملة، بات هو نفسه معداً لإنتاج المغتربين والعاملين في أسواق العمل العربية أو الدولية؟
أسئلة لطبقة سياسية أنتجت حكومتها التوافقية المسماة «حكومة الإنماء والتطوّر» بياناً وزارياً يعد بتنمية القطاعات الإنتاجية وتطوير فرص العمل.
بالمرصاد.
وفي الانتظار، أنتم حرّاس نظام يتخلّص من الفائض السكاني بالتهجير؟
في رواية «بدايات» لأمين معلوف حوار فاجع ومعبّر بين أخوين. واحد ينوي الهجرة والثاني يستبقيه يقول له: ابقَ هنا، لنغيّر الأوضاع. لا يزال الخيار هو هو: الهجرة أو التغيير، مع فارق أن الهجرة هي الآلية الرئيسية التي تفرّغ البلد من طاقات التغيير.
هذا هو السر المودع في «الصندوق الأسود» للهجرة اللبنانية: الهجرة هي صمام الأمان للنظام الريعي الطوائفي القائم. وإلا... فالتغيير. التغيير الجذري بجذرية اقتلاع أجيال وراء أجيال من اللبنانيين من أرضهم ومن بين أهلهم والأحباب.
Fawwaz.traboulsi@gmail.com
0 comments:
Subscribe to:
Post Comments (Atom)