أول الكلام تحية للحزب الشيوعي اللبناني، حزب الكادحين والفلاحين والكسبة وجميع العاملين اليدويين والذهنيين وكل المتضررين من النظام الرأسمالي الطوائفي. أنحني لذكرى شهداء الحزب، شهداء النضالات الوطنية منذ المعارك من اجل الاستقلال الى صد العدوان الاسرائيلي الأخير في تموز 2006، شهداء المعارك المطلبية والاجتماعية في الارياف والمدن، شهداء الحركة الوطنية وجبهة المقاومة الوطنية اللبنانية، «جمّول»، وجميع شهداء وضحايا النضال والحروب على ارض لبنان، إذ لا تمييز بين لبناني وآخر في الشهادة والتضحية.
إذ أحيي أقدم حزب في لبنان، الشاهد على قرن كامل من حياة لبنان، يبقى مصدر فرحي الأكبر ان أشاهد امامي تناقص الصفوف الامامية التي يشغلها الديناصورات من امثالي وتكاثر الصفوف التي يشغلها الشباب.
أن نكون على مستوى تطلعات الشباب. ذلك هو التحدي الاول والأبلغ لليسار ولمؤتمركم في آن. لغة جديدة. وسائل اتصال جديدة. وسائل نضالية جديدة. فضاءات حرية جديدة. وأخيراً القدرة الخلاقة على الجمع بين خبرة عقود من الزمن وبين حماس الأيام الأولى.
ينعقد مؤتمركم في ظرف عالمي يسهل معه الحديث الانتصاري ونحن نشهد اعنف أزمة تضرب النظام الرأسمالي منذ مطلع القرن العشرين. لن تنهار الرأسمالية بسبب أزمتها. لا ينهار نظام إلا إذا توافرت البدائل له. ولكن المؤكد ان البنيان قد تصـدع بأسرع مما كان نتـوقع وعلى غير ما توهم أربابه والمب`ررون له. ومعه تصـدعت سطــوة الاديولوجية النيوليبـرالية ذات الاكــاذيب النموذجـية عن نهــاية الـتاريخ ـ أي اختتام أي امل بتجـاوز الرأســمالية ـ ونهاية الاديولوجيات، وكذلك تخلخلت ادعاءات العولمة الامبريالية واليد الخفية للسوق توزع الخيرات على الجميع وتحرسها اليد العسكرية الأميركية ذات القفازات الحديدية. لذ آن الأوان لكي يستعيد اليساريون والاشتراكيون والشيوعيون ثقتهم بفكرهم وتراثهم وبجمهورهم وشعوبهم وفوق ذلك كله بأنفسهم ليسهموا في بناء قوى البديل والتجاوز على المستويات المحلية والكونية كافة.
للذين يريدون إقناعنا باستحالة تحقيق الاشتراكية لمجرد انهيار تجربة واحدة في بنائها، نرد عليهم بما قاله المسرحي الشيوعي الألماني الكبير برتولد بريشت: إن فشل البشر الأوائل الذين حاولوا الطيران لم يمنع البشر من أن يطيروا في نهاية المطاف!
بات الكل يتحدث عن عودة ماركس، هذه الأيام، عند أهل اليمين قبل اليسار. «يعود» ماركس لأنه لم يغادر أصلاً. لكن يُعاد اكتشافه الآن، لأن التجارب قد اثبتت صحة القسم الاكبر مما اكتشفه عن قوانين تشغيل وتطور النظام الرأسمالي وتناقضاته وأزماته من دون أن ننسى توقعاته لصيرورته المرهونة بالإرادة البــشرية. والتناقض الأس الذي شدد عليه ماركس هو ان الرأسمالية قد أنتجت من الثروات ما يكفي لسد الحاجات الاساسية لجميع سكان المعمورة، لكن الرأسمالية ذاتها، بقاعدتيها ـ السوق والملكية الفردية ـ تشكل في الآن ذاته العائق الأكبر أمام تحقيق إمكانية خلاص البشرية من «عصر الحاجة» للانتقال إلى «عصر الحرية». إن هذا الاكتشاف لا يزال الآن اكثر راهنية من أي وقت مضى ونحن نعلم ان عشرة في المئة من ثروات بضع مئات من أغنياء العالم كافية لسد حاجات المليار من أفقر سكان العالم الى الماء النظيف والسكن والطعام.
من هنا، ان آفاق النضال من اجل عالم آخر باتت أوسع الآن من أي وقت مضى. عالم يتجاوز الرأسمالية وينتفي فيه استغلال الإنسان للإنسان، وتثرى فيه الحرية بالمساواة، والعكس بالعكس، عالم العــولمة البديلة تتسع لكل العوالم وكل الثقافات والحضارات، عالم المواطنين الأحرار حيث «التطور الحر لكل فرد هو شرط التطور الحر للجميع» على ما تصور ماركس وانغلز المآل الأخير للاشتراكية في «البيان الشيوعي». هذا هو مجتمع الانسان الجديد كالذي حلم به وناضل واستشهد من اجله أمثال ارنستو تشي غيفارا.
نعم، إن الماركسية نظرة شاملة إلى الوجود. وللذين يعدوننا بالجنة في الحياة الأخرى، كل الاحترام. ولكن، هل من مانع ان نبني الجنة على هذه الفانية أيضاً، معهم إن شاؤوا؟
إن لبنان بحاجة إلى يسار الآن أكثر من أي وقت مضى.
في زمن يراد لنا أن نرى التفاوت والامتيازات الطائفية والمناطقية الصغيرة وأن نتغافل عن الفروقات الاجتماعية الطبقية الفاغرة، يكشف اليسار هذه الفروقات وآليات توالدها وتجددها. بل يؤكد أن القسط الأكبر من حل المسألة الطوائفية ومن درء مخاطر تجدد الاقتتال هو إفراغ الاحتقان الطائفي من الاحتقان الاجتماعي والطبقي. وهذا لن يكون إلا بالمزيد والمزيد من التوازن في التنمية المناطقية وفي توزيع للثروة والموارد وخدمات الدولة على الجميع.
يريدون لنا القبول بأن السير بالمحكمة الدولية او ممارسة المقاومة والدفاع عن الوطن في وجه العدوان الإسرائيلي المستمر، يستدعيان تأجيل تحقيق حقوق المواطن اللبناني في الماء والكهرباء والعمل ـ في بلده! ـ والسكن والدواء ومستوى المعيشة الكريم. يؤكد اليسار في المقابل بأن الأمن الاجتماعي هو قاعدة الأمن السياسي والعسكري، لا العكس على غرار شعار «الأمن قبل الرغيف». ويصرّ على أن إرساء الاقتصاد على قاعدة إنتاجية، وتخفيف الارتهان الاقتصادي القاتل للخارج، هما الأساس المتين للاستقلال والسيادة.
يجاهر اليسار العلماني ـ ولا حرج ـ بالدعوة الى الحياد الديني والمذهبي للدولة ومؤسساتها. وفي حين يمارس الحكام، تشاركيين او اكثريين، او بين بين، الخروج المتمادي على الدستور، لا يطالب اليسار بغير تطبيق المواد الدستورية المتعلقة بإنشاء مجلس وطني لإلغاء الطائفية. واعتماد نظام تمثيلي من مجلسين: مجلس للنواب خارج القيد الطائفي ومجلس للشيوخ يمثل الطوائف. وأخيراً ليس آخر، تطبيق القرار رقم 60 للعام 1936 القاضي بإنشاء محاكم مدنية للاحوال الشخصية.
الى هذه، نضيف النسبية في التمثيل السياسي في لوائح مقفلة ودائرة واحدة لكي تتم المنافسة بين كتل عابرة للطوائف وبين برامج تتوجه للناخبين بخيارات لا بإملاءات، كما هو حال خطاب القوة والتهديد الذي تطالعنا به معظم القوى السياسية حالياً.
ولبنان بحاجة الى يسار لتمثيل جمهور متوسع متزايد من اللبنانيين يرفض الانضواء في معسكر من المعسكرين الآذاريين او القبول بأن يكون في عداد رعايا طائفة او مذهب او الانصياع لحكم المافيات المتشاركة وحزب المصرفيين والمستوردين والمقاولين.
هل يرقى اليسار إلى مستوى هذه التحديات؟ هذا هو السؤال المطروح على اليساريين جميعاً وعلى مؤتمركم أيضاً. وفي اعتقادي ان الجواب عليه يكمن في المقدرة على المزج بين تلبية متطلبات النضال اليومي وبين افتتاح ورشة مكرّسة لإعادة تأسيس شاملة. ورشة تشتمل على ما يلي:
ـ إعادة الاعتبار للنظرية واســطة للمعرفة وهادياً للبرامج وبوصلة للسياسات والممارسة النضالية.
ـ إعادة الاعتبار لدور اليسار الرئيسي بما هو ممثل البديل الاجتماعي لنظام النهب الرأسمالي المافيوي الذي يسمى اقتصاد حر في هذا البلد.
ـ تعميق اليسار لقاعدته الاجتماعية. للآخرين المال والدعم الخارجي والاعتصاب الطوائفي. لليسار رأسمال اساسي: الناس والفكر وصحة التوجه ونظافة الكف. ومقياس التقدم في هذه المهمة هو بناء القوى الذاتية لليسار. ولنتذكر هنا ان القسم الاكبر من اليسار الذي نتحدث عنه هم الالوف المؤلفة من النساء والرجال الذين لم يعودوا ينتمون الى أي اطار تنظيمي من أطر اليسار. الى هؤلاء، الذين ما بدلوا تبديلاً، يجب التوجه اولا بأول.
ـ سوف تجري الانتخابات القادمة في ظل أسوأ قانون انتخابي طبّق في لبنان تشارك على فرضه علينا جناحا الحكم من الآذاريين. لا بل ان احد تيارات المعارضة يفاخر به على اعتباره إنجازاً كبيراً من إنجازاته. لن اقلل من اهمية خوض الانتخابات بواسطة مرشحين يساريين. ولكن بشرط تميّز الصوت والبرنامج. والمقياس هو مدى مساهمة المعارك الانتخابية في بناء وتوسيع القوى الذاتية لعملية التغيير الديموقراطي الاجتماعي.
ـ إن المهمة السياسية المركزية التي تستحق البحث في مؤتمركم هي ارساء الاسس لبناء معارضة شعبية بديلة عن جناحي النظام، وكلاهما متصالح مع ديمومة النظام الطائفي ومتواطئ مع البرجوازية المصرفية ـ التجارية المسيطرة على الاقتصاد، عندما لا يكون في خدمتها.
ـ لا مفر من التفكير وإعادة النظر في دور الحزب السياسي ذاته. ليس الحزب غاية بذاته. هو وسيلة لتمثيل إرادة ومصالح جماهير وتحقيق أهدافها والتطلعات. ولقد انتهى أيضاً زمن الاحزاب الطليعية المتعالية على الشعب باسم عصمة العقيدة او احتكار الحقيقة. وقد أزف زمن الأحزاب الجماهيرية التعددية. لقد انتهى زمن يجري فيه التبشير بالديموقراطية ونقد غيابها في الأنظمة الحاكمة في الوقت الذي تمارس فيه انواع السلطوية داخل الاحزاب والمنظمات وفي العلاقة بالناس. لا الاوامرية محفزة على الفعالية، ولا المركزية تصون الوحدة بل قد تكون اسرع الطرق الى الانشقاق والتشرذم.
ـ آخر الكلام. بين مؤتمرين لحزبكم غاب عديدون، شهداء وغيّاب. انحني احتراماً لذكراهم جميعاً دون تسمية. لكن اسمحوا لي ان اميّز واحدهم لن أراه اليوم قد تسلل حيياً الى المقاعد الخلفية وعلى شفتيه ابتسامة غامضة. اني اتحدث عن رفيقي واخي وصديقي جوزيف سماحة الذي مرّت ذكرى غيابه الثانية يوم أمس. شارك جوزيف ـ الذي لم يرد لنفسه أي هوية غير هويته اليسارية ـ في كل اللقاءات والنشاطات من أجل إعادة تأسيس اليسار وتجديده وكان من اشد المتحمّسين لهذه المهمة. في ذكرى غيابه، على الذين حققوا وصية جوزيف سماحة عندما لفوا نعشه بالعلم الأحمر، ان يعملوا على تحقيق حلمه الاكبر في بناء يسار موحد، متعدد، مستقل، عميق الجذور في التربة اللبنانية، يسار الوطنية المتصالحة مع العروبة ذات الأفق الاممي، يسار الديموقراطية السياسية والاجتماعية، يسار الحرية والمساواة.
([) كلمة ألقيت في الجلسة الافتتاحية للمؤتمر العاشر للحزب الشيوعي في 26 شباط 2009.
1 comments:
Subscribe to:
Post Comments (Atom)
كلمة رائعة! لكن للأسف الحزب الشيوعي بعيد عن طروحات فواز طرابلسي. فبعد أن قرأت وثيقة المؤتمر التي نُشرت في جريدة السفير لم ألحظ أي تغيير نوعي سوى التشديد على دور الشباب، ولم أجد أي جهد تنظيري بل الخطاب لم يتغير. وهناك تشديد مفرط على الطائفية بالإضافة إلا أنه لا يتطرق بوضوح وجرأة إلى الأنظمة العربية الإستبدادية "الممانعة"، إلخ إلخ.. أظن أن درب النضال طويل لإعادة الحزب إلى موقعه الريادي في اليسار والمجتمع بشكل عام