خالد صاغية
علّق ذات مرّة أحد الكتّاب الآسيويّين على العنصريّة تجاه العرب والمسلمين في أوروبا، مستعيراً الحديث عن غرف الغاز النازيّة، فقال: «حين تعود غرف الغاز إلى أوروبا، نعرف من سيكون داخلها هذه المرّة». لا تحتاج الديموقراطيّات الأوروبيّة إلى غرف الغاز، ولا إلى معسكرات الاعتقال. فثمّة معسكر كبير في الهواء الطلق، وثمّة من ينفخ الغاز والنيران فيه. لن يكون على الأوروبيين أن يقوموا بذلك بأنفسهم. يمكنهم أن يجلسوا في الصفوف الخلفيّة، ويتفرّجوا، ويطلقوا تصريحات لا تغني ولا تسمن من جوع عن نبذ العنف وضرورة تحقيق السلام ووقف النار التي يوافقون على إشعالها.
ماذا بعد أيّها الرجل الأبيض؟
أنجزتَ المحرقة، ثمّ طهّرتَ نفسك عبر تسليم فلسطين إلى ذابحيها. واستلقيتَ على ظهركَ ضاحكاً في عام 1948، و1967، و1982، و2006، وفي تواريخ كثيرة بينها. وها أنتَ اليوم، لم تتمكّن من انتظار انتهاء عملية انتشال الجثث من تحت أنقاض أرض غزّة، حتّى ذهبتَ لتتناول العشاء على مائدة مجرمي الحرب.
الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي، المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، رئيس وزراء بريطانيا غوردن براون، رئيس وزراء إسبانيا خوسيه لويس ثاباتيرو، رئيس وزراء إيطاليا سيلفيو برلسكوني، رئيس وزراء تشيكيا ميريك توبولانيك، ممثّلاً الاتحاد الأوروبي كلّه. ماذا ذهبتم تفعلون هناك؟ هل توجّهتم بالشكر إلى إيهود أولمرت لما صنعته يداه، أم كانت مجرّد زيارة تهنئة على الإنجاز المتمثّل بقتل المدنيّين من دون تردّد؟ لا بدّ أنّ أولمرت قد هنّأكم هو الآخر. ألم يقُلْ: «أريد أن أعبّر عن تقديري الشخصي وتقدير شعب إسرائيل لكم»؟ فالأسلحة التي استخدمها أسلحتكم، والذخائر ذخائركم. أمّا الضحايا، فهم أنفسهم أولئك العرب والمسلمون الذين تضطهدونهم في ضواحي مدنكم الكبرى. لا بدّ أنّ السيّد ساركوزي قد أبدى إعجابه بالصلابة الإسرائيليّة، فهو لم يتمكّن من استخدام العنف نفسه خلال انتفاضة الضواحي في باريس.
«أوروبا هنا بكاملها»، قالت ميركل. أهي حقّاً أوروبا كلّها؟ ماذا عن الآلاف الذين جابوا شوارع العواصم الأوروبيّة رفضاً للحرب وتنديداً بالجرائم الإسرائيليّة؟ هل تخلّت عنهم السيّدة ميركل؟ طبعاً، لا يمكن أولئك أن يكونوا أوروبيّين. فهم لا يتمتّعون بمزايا الرجل الأبيض وميزاته. لقد نزلوا إلى الشوارع ليقولوا إنّ من يُقتَل في غزّة بشر مثلنا. شعرهم ليس أشقر، وعيونهم ليست زرقاء، ولا يملكون قبل النوم مئات أنواع الجبنة ليختاروا بينها. لكنّهم، رغم ذلك، يحبّون أطفالهم الذين يموتون أمام أعينهم، ويعملون في الليل والنهار ليروا البسمة على وجوههم الصغيرة.
«إنّنا نعبّر عن حزننا للأطفال الصغار الذين قتلوا»، قال الزعماء الأوروبيّون. كذلك دعوا إلى إجراء سريع لتخفيف معاناة الجرحى في غزّة، بما في ذلك فتح المعابر الحدودية بين إسرائيل ومصر. حقّاً؟ مش بكّير شوي؟ لماذا لم يُحضِر ساركوزي مهرّجه للشؤون الخارجيّة ليحوّل هو الآخر ما جرى إلى كارثة طبيعيّة سيجنّد لها منظّمة «أطبّاء بلا حدود»، أو يدعو المجتمع المدني الفلسطيني لتأليف تجمُّع «خلص»... «خلص مقاومة» طبعاً. والآن تتذكّرون معبر رفح؟ هل قُتل ما يكفي من أطفال فلسطين؟ 410 عدد معقول؟ بات بإمكان مصر الآن أن تفتح معبر رفح؟
في غمرة غبطته، لم ينسَ ساركوزي التنويه بديموقراطيّة دولة إسرائيل. وقال إنّ القرارات التي اتّخذتها جديرة بدولة ديموقراطيّة. فالموضة الآن هي دعم أشكال الأنظمة، لا ما تفعله. فمن حقّ الديموقراطيّات أن تشنّ حروباً. والحروب المثاليّة هي التي تشنّها الديموقراطيّات على تنظيمات غير ديموقراطيّة. لكن، ماذا لو كانت هذه التنظيمات قد انتُخبت فعلاً وفقاً لنظام ديموقراطي، وقد منعتها سائر ديموقراطيّات الأرض من الحكم؟
الأرجح أنّ الرئيس ساركوزي وزملاءه المجتمعين في عشاء العار لا يملكون جواباً، أو هم يملكون، لكنّهم لا يجرؤون على البوح به. فالديموقراطيّة مرحَّب بها ما دامت تحمل إلى السلطة مَن هُم مثلنا، من يشبهوننا في الملبس والمأكل والعادات والتقاليد والأفكار. أمّا الآخرون، فالحروب بانتظارهم، وربّما... غرف الغاز أيضاً.