لبنان:مظاهرة كلنا غزة تصل الى السفارة المصرية..مصري يحرق باسبوره ويقول ":مش مشكلة أتحبس،..، بس مشكلة يكون رئيس بلدي هو اللي بيموّت أطفال غزة من الجوع"
Posted by Farfahinne at 1:29 PM جهينة خالدية
عندما وصلت النعوش الرمزية محمّلة على أكتاف شباب مسيرة »كلّنا غزّة«، إلى أمام السفارة المصرية، وضّبت السماء نفسها: جمعت الغيوم، وقالت للشمس أنّ تغيب قليلاً لتنصت إلى محمود درويش حاضناً الحزن بصوته.
في السماء، لم يبق إلا أضواء زهرية تتلصص من ثقوب الغيم على النعوش الثمانين وهي تُفرَش أمام الأسلاك الشائكة، ويفترش حولها كلام القصيدة: »على هذه الأرض ما يستحق الحياة، عشب على حجر، أمهات يقفن على خيط ناي، وخوف الغزاة من الذكريات، على هذه الأرض ما يستحق الحياة، على هذه الأرض سيدة الأرض، أم البدايات، أم النهايات، كانت تسمى فلسطين، صارت تسمى فلسطين«.
بعد ساعتين ونصف الساعة من السير، وصل مئات من المشاركين اللبنانيين والفلسطينيين إلى مقر السفارة في الجناح، بعدما انطلقوا عند الثانية من بعد ظهر أمس من أمام مبنى السارولا في الحمراء، عابرين فردان، كورنيش المزرعة، الكولا، فالجناح، يرددون مطلباً أساسياً: »فتح مصر لمعبر رفح«، بالإضافة إلى »وقف إطلاق النار من دون شروط مسبقة«.
مصري يحرق جوازه
انضم عدد آخر من المشاركين إلى المسيرة في دقائقها الأخيرة. من بين هؤلاء، رجل مصري يدعى عبد الله. يقترب من الزميل المصور ليبلغه الجملة التالية: »ح أحرق باسبوري«. تسمعه مجموعة من الحشد. تتجاذبه وتقرر أن تبعده قليلاً عن النعوش خوفاً من اشتعال القماش الذي يغطيها. يُحمل الرجل على كتفي أحدهم، ويضرم النار بالجواز الأخضر، فتكون الصورة الحديثة والجذابة لعشرات العدسات. عبد الله يردد لـ»السفير«: »مش مشكلة أتحبس، مش مشكلة أكون من غير جوازي، أبقى بلبنان، بس مشكلة يكون رئيس بلدي هو نفسه اللي بيموّت أطفال غزة من الجوع«.
عندما تنتهي المسيرة، ويرحل الجميع إلى بيوتهم، وتكون الصورة عينها في طريقها إلى النشر في الإعلام، ويكون الرجل جالساً في بيته، بين أولاده السبعة، ينتظر أن يشاهد نفسه في التلفاز لكي يروي لأولاده أن لبنان، بالمبدأ، هو ملجأهم الوحيد حالياً. فالرجل الذي لم يستطع أن يحتمل مشاهد الموت اليومية في غزة، قال كلاماً كثيراً، غضب وصرخ وأبكى النسوة اللواتي وقفن خلفه. هؤلاء بكين لوعتهم ولوعته، وبكين مصيره، وخوفاً عليه، طالبنه بالرحيل بعيداً.
يرحل عبد الله، بعد أن يُنهي المنظمون الاعتصام. وترفع النعوش، التي »ستنقل إلى الاعتصام المفتوح لنصرة غزة أمام »الإسكوا«، وجزء منها إلى أمام مسرح المدينة ـ السارولا«، تقول رشا صلاح، وهي مشاركة في تنظيم المسيرة. وتقول صلاح إن »النعوش فرضت رهبة على المسيرة التي أردناها لغزة فقط، من دون أي خلفيات أخرى أو شعارات لزعماء سياسيين.. كل هدفنا أن نُبقي نبض الشارع حي، خوفاً من فتور الناس اتجاه العدوان على غزة«. وتؤكد إيمان بشير، وهي من المنظمين أيضاً، أن مجموعة الشباب اللبناني والفلسطيني الذي نظم المسيرة »حرص على دعوة كل الأحزاب اللبنانية والفصائل والمنظمات الفلسطينية.. لأننا نريد أن نكرر: كلنا غزة«.
وكما في كل تحرك، لم يتردد »اتحاد المقعدين« في المشاركة في هذه المسيرة، وبحسب رئيسة الاتحاد سيلفانا اللقيس: »أربعون شخصاً معوقاً يسيرون لأجل غزة«. ويقول مروان البسط من »الاتحاد« إن »الدم الذي ينزف في غزة هو نفسه الذي نزف في بيروت والعراق، ولا نميز بين حماس ولا عباس«.
تحرّك أمس، بحسب رئيس المجلس الوطني في اتحاد الشباب الديموقراطي عربي العنداري، »ينطلق من بُعد إنساني بالدرجة الأولى، ونحن نتوجه إلى مصر، لأن إغلاقها لمعبر رفح يطير عقول الناس«. ويروي العنداري: »عندما رفعنا الرايات الفلسطينية عند الأسلاك الشائكة أمام السفارة المصرية، نزعوها، فأعدنا التجربة وعلقنا الأحذية«. التجربة نجحت حينها، و»صمدت« قليلاً.
الأحذية هذه، كانت من ثاني الصور الجاذبة للعدسات، وللطفل الفلسطيني عمران.. الذي بقي يتأمل فيها طويلاً، وعاد لينتقي منها زوجاً يرميه باتجاه مبنى السفارة، قبل أن يحمل صورة لغزة ويرفعها في وجه الأمن ويصرخ لهم: »شايفين هادي.. هادي غزة يا شباب، هادي حياتي، هادي عم يضربوها ويقصفوها والسفارة عم تتفرج«.
هتاف الصمت
الرهبة إذاً، كانت تتسلل بين الجموع، فتجدهم يهتفون، يغنون مع جوليا والشيخ إمام، ويلوحون بالأعلام الفلسطينية الوحيدة الحاضرة، إلى جانب عشرات من الكوفيات الفلسطينية. الرهبة ذاتها تجلت بعد لحظات بأثواب من الصمت، استطاع أن يحل محل كثير من الكلام.
كثيرون من المشاركين في المسيرة أتوا من خلفيات ثقافية، اجتماعية، غير حزبية.. بينهم الرسامون والفنانون والأدباء والصحافيون الأجانب والمحليون، والناشطون في المجتمع المدني والمنظمات غير الحكومية. لهذا ربما، لا يُسمع الكثير من السياسة في هتافهم، ولا الكثير من القبضات النارية الموجهة إلى السماء.. ومن المؤكد أن معظم ما قالوه، عبّروا عنه بعيونهم وبمشيهم وبتحملهم ثقل النعش، طوال ساعات.. في ظل ثقل البرد.
»الفرجة«.. في فردان
طوال خط سير المشاركين، كان مشهدهم حاملين النعوش يختلط بمشاهد محيطة مغايرة، أبرزها كان في فردان. عدد من مرتادي المقاهي قفز إلى الأرصفة ليسمع مصدر الأغاني الثورية وصوت الشيخ إمام وهتافات: »على باب المخيم، قتلوا لي اخوي، والله لأخذ بثأروا، أنا وأمي وأبوي«، و»شو مكتوب على أيدينا؟ طفل فلسطين بعينينا«، و»وين حكام العرب، تركوا غزة تنضرب«.
قبل وصول المسيرة إلى أمام المقاهي تماماً، كانت مشاهد النعوش السوداء تتراءى لسيدة أربعينية أنيقة. ركزت نظرها باتجاه المشهد، وحادثت نفسها: »هول بالأسود علشان عاشوراء؟«. سمعها رجل وأجابها وهو يسوي شاله الكشمير: »هيدي تحرّك علشان فلسطين.. ما بيطوّل«. لم تنتظر السيدة كثيراً، دفعت ثمن فنجان قهوتها، حملت حقيبتها، وانضمت إلى المسيرة، وهي تسأل أحد حاملي النعوش: »سوري (sorry)، يعني معليش إذا مشيت معكم شوي«. ومشت معهم، برفقتهم. فمسيرتهم لم تطرد الناس، بل سعت للمّهم حولها، وحول غزة، وحول حدود مغلقة في وجه شعب يُقتل.
|