حسام عيتاني

الحكم ببراءة المتهمين في غرق العبّارة »السلام ٩٨« مقدمة لرواية تشبه روايات غابرييل ماركيز. لا ينقص المشهد سوى تلاوة الحكم على الموتى في البحر ليستيقظوا ويتوجهوا الى سطح الماء في هدوء الليل ويبدأوا بقص حكاياتهم التي انتهت كلها في ذلك اليوم من العام .٢٠٠٦ يحق لموتى العبّارة المصرية ان نسمع قصصهم التي تطمسها تبرئة خمسة من المسؤولين في شركة »السلام« وإدانة قبطان عبارة »سانت كاترين« الذي ارتكب جرما »لا يأتي من بشر« بحسب تعبير رئيس المحكمة الذي قرأ الحكم، برفض القبطان تقديم المساعدة الى ركاب »السلام ٩٨« الذين كانوا على وشك الغرق في مياه البحر فيما كانت سفينته تبحر بالقرب منهم. غير ان جرما »لا يأتي من بشر« لم يستوجب حكما يزيد عن ستة اشهر في السجن ودفع عشرة آلاف جنيه غرامة. يحق لغرقى العبّارة ان يخبرونا كيف قادهم الفقر والذل ومطاردة لا تهدأ لاحلام السعادة والحياة الكريمة، الى السفر والعمل في السعودية حيث لم يجدوا على الارجح سوى ذل آخر. ذل المضطر للتغاضي عن التعالي الشوفيني وتحمل ما لا يحتمل في سبيل لقمة العيش. ذل لم يجلب للمصابين به حتى تكاليف العودة جوا الى ارض مصر ما اضطرهم الى ركوب البحر على متن »السلام٩٨« التي اكتشفوا متأخرين انها على غرار غيرها من ثمرات الاهتراء الشامل وانعدام المسؤولية في القطاعين العام والخاص في مصر، كانت تفتقر الى ما يسمح لها بإتمام رحلة قصيرة من دون ان تصاب بأضرار جسيمة كانت كافية للقضاء على اكثر من الف من الركاب، فُقد الكثير منهم واختفى في قاع البحر. امتنعت »سانت كاترين« عن مد يد العون الى المشرفين على الموت ورفض المسؤولون عن مطار الماظة تسيير دورية جوية استكشافية قبل قبض كامل تكاليفها وتهربت الشركة المالكة للعبّارة من دفع أي من سفنها في مهمة بحث وإنقاذ قبل انقضاء ساعات طويلة من اعلان اختفاء »السلام ٩٨« عن شاشات الرادار. غير ان كل هذا لا ينفي ان البراءة تنجح في الاحاطة بجميع المسؤولين عن مآسي الآلاف من المصريين الذين ظلوا واقفين في سفاجا منتظرين أحبة لن يعودوا. اذا انصتنا الى اقوال الموتى سنسمع عن امهات وأبناء ورجال غرقوا في البحر بعد قصص طويلة من آمال وأحلام مكسورة. كانوا ينتظرون اعترافا بمأساتهم، لن يعيدهم الى الحياة، لكنه على الاقل يعلن ان في هذه الدنيا اناسا ظلموا طويلا الى ان جاء موتهم عصارة ظلم خبروه اثناء الحياة وحاولوا الفرار منه الى فرصة عمل في بلد استقبلهم بشروطه بعدما ضاقت الحياة في بلادهم التي لم تتكرم بإعلان يوم حداد واحد عليهم. كانت حياتهم، في نظر حكامهم، موتا مؤجلا وجاء غرقهم ليعلن موتهم الحقيقي، لا أكثر. ما من جديد في هذا الاحتقار لحياة المواطن العربي سوى بلوغه مستويات خرافية من الصلف والاتساع والانتشار في جميع البلدان العربية التي لا ترى حكوماتها أي رابط بين الحفاظ على حياة المواطنين والذود عنها حيال ما يمكن ان تتعرض له من مخاطر، وبين شرعية الانظمة السياسية الحاكمة التي تريد برغم كل شيء الاستمرار في الحكم الى ما لا نهاية من خلال التوريث والقبض على المستقبل من دون ان تقوم بما يلزم لجعل العيش ممكنا في الحاضر. وفي حالة الحكم الصادر قبل يومين في مصر، يمكن القول ان السلطات هناك اما انها تشعر بقوة فائقة لتتجاهل حالة الصدمة التي يثيرها الحكم ببراءة المتهمين بالقتل غير العمد والاهمال، بحيث يستطيع صاحب الشركة المالكة للسفينة وابنه (واللذان يعتبران من المقربين من دوائر الحكم العليا) دفع القضاء الى اصدار الحكم الذي يلائمهما بتغطية من السلطة السياسية من دون الحاجة الى تقديم كبش فداء الى اهالي الضحايا لامتصاص نقمتهم ـ وهذا اضعف الايمان ـ، وإما ان الحكم وقياداته باتوا يعيشون على كوكب آخر ما يجعلهم غير مبالين بما يجري في عالم المصريين العاديين. وإذا كان من بصيص امل في هذه اللوحة السوداء، فإنه يأتي من قرار الادعاء العام استئناف حكم البراءة بسبب الفساد الواضح فيه، وفق ما أكد المدعي. واحد من اهالي الضحايا وقف امام مقر المحكمة بعد اعلان براءة المتهمين متسائلا الى اين يمكن ان يحمل قضية زوجته وأبنائه الاربعة الذين غرقوا في العبارة المنكوبة. سؤال كهذا لا يصدر سوى عن يأس عميق من الدولة وأجهزتها و»عدالتها«. بيد ان اغلاق ابواب الدولة والعدالة والقانون لا يفعل سوى انه يفتح أبوابا جديدة للتمرد اليائس او المعقلن، ولا يؤدي في نهاية المطاف سوى الى البحث عن مخارج توفرها احلام الحصول على الاعتراف بإنسانية الانسان وبحقه في ان يحيا باحترام وعندما يموت ان يعرف ذووه لماذا مات. بساطة هذا الطلب لا تنفي ان تحقيقه مستحيل في ظل حكومات قامت على اذلال شعوبها واستغلال فقرها وحاجتها الماسة الى الرغيف والمسكن والمأكل. وهذا سلوك لا تحتكره حكومة عربية واحدة معاذ الله.

0 comments:



Copyright 2008| FARFAHINNE is powered by Blogger and K2 Beta Two by يساري مصري.
RSS Entries and RSS Comments