عاش التوافق. إنتخب لنا العالمان الديمقراطي والممانع رئيسًا توافقيًا. وتباوس أقطاب الصراع ليحكموا سويّةً بضمان الثلث والأكثرية المحترمة. عاش التوافق. ومات المواطنون. نادى العمال بمطالبهم المحقة فأسكتهم الرصاص وقطع الطريق من أمام تحركاتهم. ليست التظاهرات ولا الإضرابات ولا الحجج والبراهين التي تصنع الوفاق. بل مبارزة المال والسلاح وطائرتان وفندق واحد فقط. ومن رحم تقاذف التهم بالعمالة والخيانة خرج المسلّحون في اشتباكات راح ضحيتها أمن المواطنين واستقرارهم. لكن التوافق أولى من الدماء التي لم تجف بعد. فتصغر التضحيات أمام رونق الوفاق. طبعًا كان على الوفاق أن ينتظر.
كان الحلّ مطروحاً منذ فترة طويلة. لكن دماء المواطنين لم تكن قد اختمرت بعد. فدماء لاجئي نهر البارد الآمنين لا تحتسب في الميزان الوطني. ودماء عناصر الجيش، ودماء خيرات القيادات السياسية والإعلامية والأمنية ليست بالكافية. كان لا بدّ من حرب أهلية محلية صغيرة نعتها البعض بالانقلاب والبعض الآخر بعملية التنظيف. هي فقط صورة مصغّرة لما قد يأتي. لكن الوحدة الوطنية بقيت متماسكة طبعًا. فالجيش لم يتدخل لكي لا ينقسم، حتى أصبح الوقت مؤاتيًا، لأنه يحتاج الي توافق سياسي بين الزعماء ليقوم بواجبه. فهلّل الزعماء فالناس للجيش وقائده رئيسًا للجمهورية، لأن الجيش هو حامي الوطن والشعب وضمانة للمقاومة التي هي بدورها ضمانة للجيش فلا تواجهه، والتي على الشعب أن يحميها دفاعًا عن الوطن. رئيس انتخب بمخالفة المادة 49 من الدستور في الفقرة الثالثة التي تنصّ على استحالة انتخاب القضاة و موظفي الدرجة الأولى والتي اغفل رئيس مجلس النوّاب عن قرائتها لحظة الانتخاب. لا يحق لرئاسة المجلس النيابي ولا لأعضاء المجلس مخالفة مواد و فقرات الدستور و تغطية المادة 49 بالمادتين 74 و 75 كمخرج للأزمة.
عاش اللبنانيون سنتين عصيبتين امنياً و اقتصادياً. وولّدت الاشتباكات الأخيرة أحقادا لا نزال نرى مظاهرها الحيّة وستمتدّ تداعياتها وتتشابك في الأيام الآتية. أين تقع المسؤلية؟ في تعطيل المؤسسات الوطنية كما المواد والآليات والمواعيد الدستورية؟ في القرارات الأخيرة التي اصدرتها الحكومة وهي تعرف مسبقا عدم قدرتها على التنفيذ ما أرغمها على التراجع والغاء قراراتها؟ في سلاح المقاومة الذي استخدم بغير اتجاهه؟ في الجيش الذي وقف متفرّجاً؟ في السياسات الاقتصاديّة الافقاريّة؟ في التحريض الطائفي والمذهبي والمناطقي والعنصري والشوفيني المستمر؟
لقد خرجت الزعامات من حوار الدوحة باتفاقات تحمي مصالحهم ولو مؤقتًا. فأتحفونا بقانون انتخاب حُسمت أغلب نتائجه مسبقاً. اتّفق المتحاورون على قانون انتخاب قيل فيه أنه حامي حقوق المواطنين، عبر اعطاء بعضهم الحق في انتخاب نوّاباً اكثر من غيرهم، لأنّ محاصصة زعماء الطوائف أهم من المساواة بين المواطنين. قانون 1960 الذي فرضته احداث 1958، أدّى بعد ذلك إلى فرز طائفي مهّد الطريق الى الحرب الأهلية. فهل يعيد التاريخ نفسه؟ ها هم السياسيون، ان سميّت مهنتهم سياسة، يتباهون علناً بتأمين حقوق طوائفهم كبداية لحملاتهم الإنتخابيّة. نرى أن القانون المثالي يقوم على أساس لبنان دائرة انتخابية واحدة مع النظام النسبي الذي يعطي التمثيل الحقيقي والدمقراطي للمواطنين اللبنانيين. والمخرج في الوقت الحالي يكمن في اقرار قانون اللجنة الوطنية لصياغة قانون الانتخاب، الذي يقوم على مبدأ مزج النظام الأكثري بالنسبي ويتضمّن بنود إصلاحية مهمة في تنظيم الاعلام الانتخابي وحد النفقات وغيرها.
لقد فُرض علينا الأمر الواقع و فُرض علينا الاعتراف بمشروعيته. كيف نبلور البديل؟ ننطلق من نقد التجارب السابقة انطلاقًا من الماضي القريب. لذا ندعو الجهات التي تعتبر نفسها يسارية وعلمانية وتنضوي في أحد معسكري ما كان يسمّى قبل ايّام بالمعارضة والموالاة أن تعيد النظر في خياراتها. فلتقارن ما بين مطالبها ومبادئها من ناحية، وبين ما أملت وما حققته فعلاً بواسطة تحالفاتها من ناحية أخرى. كما ندعو الناشطين اليساريين والعلمانيين والمستقلّين الذين يريدون بحق تطوير المجتمع والدولة أن يبادروا بحلول مدروسة قد تحقّق مطالبهم والا تقتصر أنشطتهم على المطالبة بمصالحات مؤقتة. فالزعماء لا يتفّقون إلآّ علينا ولا يختلفون إلا عبرنا. فلن يعطونا إلا بعض الاسقرار الامني والاقتصادي في شبه حلول لا تؤدّي الا إلى تأجيل الإصطدام و مضاعفته. فلنبرهن أن التاريخ لا يعيد نفسه لمّا نتعلم منه.


0 comments:



Copyright 2008| FARFAHINNE is powered by Blogger and K2 Beta Two by يساري مصري.
RSS Entries and RSS Comments