كميل داغر

يتضافر الرابع من أيار/ مايو القادم، موعد الإضراب العام الجديد للعمال المصريين، مع السابع من الشهر عينه، موعد الإضراب العام للعمال اللبنانيين – بفارق ثلاثة أيام فقط – لأجل إعطاء صورة عن حقبة جديدة في تاريخ الصراعات الطبقية في المنطقة العربية، التي يفترض أن تعطي إشارة واضحة إلى مسألتين اثنتين أساسيتين:

1. أن هذا الصعود لا بد أن يشكل رداً جوهرياً، ليس فقط على مسيرة الإفقار وإشاعة أقصى درجات البؤس، وانتزاع المكاسب التاريخية التي كانت حصلت عليها الطبقات الكادحة في القرن الأخير – وهي المسيرة التي تلازمت مع الهجمة المتمادية للعولمة الرأسمالية والسياسات النيوليبرالية المترافقة مع النمو الكارثي للنزعة العسكرية وما يترتب عليها من حروب يقودها المحافظون الجدد الأميركيون – ، بل أيضاً على توجه هؤلاء الأخيرين لتفتيت المجتمعات والدول العربية، تسهيلاً لتأبيد نهبهم لمصادر الثروة فيها، ولتكريس وجود الدولة الصهيونية ولتعميق هيمنتها، بما هي رأس حربة للهيمنة الإمبريالية؛ وذلك بمقدار ما يكون هذا الصعود مدخلاً إلى التوسع ليشمل كامل المنطقة، ويؤدي سريعاً إلى إبراز وحدة الطبقة العاملة العربية في مواجهة البرجوازية المحلية التابعة وأنظمة العمالة والديكتاتورية على امتداد الوطن العربي.

2. أنه سيعيد الاعتبار، بمقدار ما يتنامى ويحقق انتصارات لاحقة، لمفاهيم وأهداف وتطلعات بات ينظر إليها الكثيرون، خطأ ً، على أنها أوهام وأحلام، عفا عليها الزمن. من مثل مطلب تصفية الهيمنة الإمبريالية على المنطقة العربية؛ وتمكين الشعب الفلسطيني من الممارسة العملية لحقه في تقرير مصيره، بما في ذلك عودته الكاملة إلى أرضه التاريخية في فلسطين؛ والوحدة العربية؛ وبناء الاشتراكية.

ولقد جاءت أحداث المحلة الكبرى، في 6 نيسان/ ابريل الماضي، في سياق الإضراب العام الذي سبق أن دعا إليه عمال النسيج في المحلة المذكورة، وتضامن معهم في الدعوة إليه والتعبئة لأجله عشرات الألوف من «شبيبة المدوِّنات»، بواسطة وسائل الاتصال الحديثة التي أنتجتها العولمة الرأسمالية واستخدمها هؤلاء بكفاءة منقطعة النظير، (في بلد إذا كان تعداد سكانه يبلغ الستة والسبعين مليوناً، معظمهم من الفقراء، وما تحت خط الفقر، فإن عدداً كبيراً جداً من هؤلاء يستخدمون الإنترنت، ويصل تعداد حاملي الهاتف النقال إلى أكثر من 30 مليوناً!)، جاءت تلك الأحداث – نقول – لتؤكد مدى عمق أزمة النظام المصري، ومدى هشاشته الضمنية، وما يوحي به من عجز عن احتواء نقمة شعب سوف تُظهرالمرحلة القادمة، على الأرجح، أنه تغير كثيراً، في السنوات السابقة، التي شهد العام الأخير وحده، من بينها، أكثر من مئتي إضراب، منها بوجه أخص تلك التي حصلت في المحلة الكبرى.

لماذا المحلة الكبرى؟

في ديوان الحلم في السجن للشاعر المصري، زين العابدين فؤاد، الصادر في العام 1978، قصيدة مهداة إلى عمال المحلة، يقول فيها الشاعر:

تطلع جيوش الفقرا، مع شمس الصباح

ترفع رايتها كل يوم ف مدينه

تفتح كتاب النيل وتركب سفينه

النَّص غَلَّه

والنص مغنى وسلاح

يحلا غنا حلوان في شمس المحلَّه

وتغني شبرا غنوه من كمشيش

ويهز صوت الشعر جدران السجون

وترج أصوات التلامذه محاكم التفتيش

تطلع جيوش الفقرا مع شمس الصباح

ترفع رايتها كل يوم ف مدينه

تعلى الرايات ترسم خريطة مصر

فهذه المدينة العمالية، التي يزيد سكانها على المليون ونصف المليون معظمهم من الفقراء والمعدمين، ويشتغل في مصنع النسيج والغزل وحده، فيها، أكثر من 24 ألف عامل – وتعتبر بالتالي المركز الأول ، من حيث الأهمية، والأقدم، لصناعة النسيج في مصر – كانت قد شهدت على مدى تاريخها انتفاضات كبرى، إحداها هي التي اندلعت في العام 1975، وشكلت «بعنفها وشمولها وعفويتها» إحدى مقدمات الانتفاضة الشعبية المشهورة، في 18 و19 كانون الثاني/ يناير 1977!

وإذا عدنا أكثر إلى الوراء، وبالتحديد إلى العام 1946، تنكشف لنا صورة أكثر بلاغة لعمال النسيج في هذه المدينة، ولدورهم المؤثر جداً في إحدى انتفاضات الشعب المصري ضد الاحتلال البريطاني، من جهة، ومن جهة أخرى، لأجل القضية الاجتماعية ومستوى معيشة كادحي مصر. وسوف نترك الكلام لكاتب فرنسي، في وصف تلك المحطة الرائعة من نضال الشعب المصري، التي تصدرتها لأول مرة منذ عام 1919، قيادةٌ لم تكن لحزب الوفد. للمرة الأولى، كانت القيادة لشيوعيين، في المنظمات العديدة، الجنينية، بمعظمها، باستثناء الحركة المصرية للتحرر الوطني (ح م ت و)، التي كانت تضم المئات، في كل حال، ليس أكثر!

يقول جيل بيرو في كتابه، Henri Curiel, Un homme à part:

«في 9 شباط/ فبراير 1946، خرج الطلاب بكثافة من جامعة القاهرة وهم يهتفون بشعارات معادية للبريطانيين. واتفقوا عند كوبري عباس، مقابل الجامعة، على التوجه إلى البرلمان، وكان الجسر متحركاً في ذلك الحين. فحشد قائد الشرطة، سليم زكي، رجاله فوق جزيرة الروضة، في الطرف الأخير من الجسر. وكان جنرال إنكليزي يشرف على العمليات. حين وصل الطلاب إلى الجسر، أعطى زكي الأوامر بإطلاق النار، وأمر في الوقت نفسه بفتح الجسر المتحرك تحت أقدام المتظاهرين. فسقط عشرات الطلاب في النيل، وبحسب الرواية الرسمية كان عدد الغرقى عشرين»، في حين قدَّرقادة التحرك الضحايا «بضعف العدد المشار إليه»، عدا الجرحى وكانوا أكثر من المئة.

ويضيف بيرو Perrault:

«غداة المقتلة، انتخب الطلاب، بحضور أساتذتهم، لجنة تنفيذية من 115 عضواً تم تكليفها بتنظيم النضال. تأسست لجان قاعدية تلقائياً في المدارس الثانوية والفنية. وتحركت ضاحية شبرا الخيمة، بمصانعها الصغيرة للنسيج وكانت تعد بالمئات، والتي تمثل أقوى تركز عمالي في البلد والأكثر قتالية، جارَّةً في إثرها المركز الصناعي في المحلة الكبرى. ولدى الطلاب كما لدى العمال كان الشيوعيون في الطليعة، وقد امتزجت كل المنظمات لشدة ما كان الحماس متوقداً، وكانوا روح اللجنة الوطنية للطلاب والعمال التي تأسست لتجمع مئات اللجان القاعدية وتمثلها، وإن كان يوجد فيها نقابيون تقدميون، ووفديون يساريون وأخوان مسلمون (علماً بأن هؤلاء الأخيرين سرعان ما غادروها)».

هذا وقد ودعت اللجنة الوطنية السكان للتظاهر بكثافة في 21 شباط/ فبراير. ويقول بيرو:

«صباح 21 فبراير، كان الإضراب يشل مصر بالكامل. وبعد الظهر، كانت المدن شبيهة بقلب يعود إلى الحياة، تخفق بالنبضة الصمّاء والثقيلة التي توقِّعها خطى مئات الألوف من المتظاهرين. وفي القاهرة، كانت المواكب تتجه كلها نحو ساعة الإسماعيلية، حيث تنتصب ثكنات الاحتلال المشؤومة».

وقد أطلقت النار الرشاشات الإنكليزية الرابضة خلف الحواجز المشبكة، وتم إحصاء 3 قتلى ومئة وعشرين جريحاً. أما بيرو فيضيف، مصوراً سيرورة سوف يتكرر شبيه لها لدى الجماهير الإيرانية التي أطاحت الشاه والهيمنة الأميركية على إيران، بعد ذلك بحوالي ثلاثة وثلاثين عاماً:

«أعلنت اللجنة الوطنية الرابع من آذار/ مارس يوم حداد، وكان يوم دفن الوطنيين الثلاثة الذين سقطوا. وجرت الاستجابة للدعوة، وسارت الإسكندرية في إثر القاهرة فنظمت مظاهرة جمعت كل سكانها تقريباً.

«في 8 آذار/ مارس، أعلن رئيس الوزراء، كليمنت أتلي، في مجلس العموم، إجلاء الجيش الإنكليزي عن وادي النيل المصري. وسوف تتركز القوات بعد ذلك التاريخ في منطقة قناة السويس».

والكاتب الفرنسي المنوّه به أعلاه يشرح بعدئذ أن ما حدث آنذاك كان يمكن أن يتطور إلى ثورة، وهو أمر كان يقض مضجع الحكومة المصرية في تلك الفترة، حتى أن مؤرخين عديدين كتبوا مذاك، متأسفين، عما سمّوه «الفرصة الضائعة»، معتبرين أن «كل شيء كان يساهم في جعل عاصفة ثورية تهب على مصر»، عاصفة لم تهب، في الواقع، بسبب عدم توفر الظروف الذاتية الكافية لإنضاج ذلك، حيث أن «اللجنة التي ولدت عند كوبري عباس، بحسب بيرو، في الألم والنقمة، لم تكن تملك لا برنامجاً لأجلٍ طويل ولا منظورات للمدى القصير».

وقد نقلنا هذا المقطع الطويل من كتاب جيل بيرو عن أحداث شباط/ فبراير 1946، لأكثر من سبب: أولاً، لأنها تكشف دور عمال المحلة الكبرى في أحداث مفصلية في تاريخ مصر (وإن لم يكن أحد من العمال الحاليين موجوداً بينهم في تلك الحقبة، وفقط لأن ثمة تراثاً، ودوراً لا يرتبطان بالضرورة بهذا الفرد أو ذاك، بل بالظروف التي لم تتغير تقريباً، منذ ذاك التاريخ، من حيث الجوهر). وثانياً، لكشف أن التاريخ قد يكرر نفسه، وليس بالضرورة على الطريقة التي وصفها ماركس في كتابه 18 برومير، لويس بونابرت! وثالثاً، لتأكيد مسألة سوف نعود إليها مع استفاضة نسبية في نهاية هذا المقال، هي تلك التي تتعلق بالحاجة القصوى للقيادة المناسبة، لأجل الاستفادة من ظروف موضوعية مؤاتية، لأجل المضي بسيرورة ثورية، في حال وجودها، إلى النصر.

السادس من نيسان/ ابريل محطة واعدة

ومثلما برز عمال المحلة الكبرى في شتى المحطات القديمة نسبياً للصراع الطبقي (والوطني أيضاً)، منذ أحداث شباط/ فبراير 1946، فقد كان لهم دورهم الريادي في الصعود الجديد لهذا الصراع، في السنوات الماضية. وكان إضرابا السابع من كانون الأول/ ديسمبر 2006 وأيلول/ سبتمبر 2007، اللذان تميز بهما بوجه أخص عمال شركة مصر للغزل والنسيج في المحلة، مَعْلمين بارزين في سياق أكثر من مئتي إضراب عمالي آخر شهدتها المصانع المصرية في السنة الأخيرة وجاءت لتكشف مدى عمق أزمة الرأسمالية المصرية والنظام الذي يتربع في قمته الرئيس مبارك، وبجانبه إبنه جمال، المرشَّح ضمناً لخلافته، في سياق ما بات معروفاً بتوريث السلطة، في الأنظمة العربية ذات اليافطة الجمهورية الزائفة. وقد جاء الإضراب الأخير، في السادس من نيسان/ ابريل، ليتميز عن التحركات الإضرابية الكثيفة التي سبقته بطابعه العام. هذا وقد لعب دوراً أساسياً في التمهيد له وإنضاجه عمال المحلة الكبرى المنوه بهم أعلاه، وسكانها بوجه إجمالي، وإن كانت شاركت في الدعوة له والتعبئة لأجله المنظمات المنضوية في حركة «كفاية»، من جهة، وتلك الحركة العفوية غير المسبوقة لمن باتوا يعرفون بشبيبة الفايس بوك والهاتف النقـّال ومدوني الإنترنت، الذين ساهموا بصورة حاسمة في نشر الدعوة للتحرك في صفوف أوسع الجماهير المصرية.

إن هذه الجماهير التي تحملت شظف العيش بصمت، على امتداد الحقبة الناصرية، بسبب إنجازات فعلية تحققت آنذاك، في مجالات شتى، ولا سيما على المستوى الوطني العام، في مواجهة الاحتلال البريطاني وضد السيطرة الأجنبية على قناة السويس، وفي موضوع التأميمات وتوزيع الأرض، وعادت فانتظرت عبثاً تحقق وعود الرئيس السادات بالازدهار والرفاه بنتيجة الصلح مع إسرائيل، هذه الجماهير أعادت النظر بعمق، في السنوات الأخيرة، في علاقتها بالسلطة القائمة، ولا سيما بعد أن تكشَّف مدى زيف تلك الوعود وحقيقة النتائج الكارثية لسياسة العودة إلى علاقات السوق واعتماد الإصلاحات النيوليبرالية، وخصخصة أجزاء حاسمة من القطاع العام.

فعدا البطالة التي تطول نسبة عالية جداً من اليد العاملة، ولا سيما في أوساط الشبيبة، تتحدث التقارير الدولية عن كون أكثر من 48 % من السكان هم في مستوى الفقر، في حين يذكر تقرير البنك الدولي عن التنمية البشرية لعام 2007 أن عدد الذين هم دون خط الفقر بلغ الأربعة عشر مليوناً، بينهم أربعة ملايين لا يحصلون على قوتهم اليومي. هذا في حين بات معروفاً أن التضخم يتخذ خطاً صاعداً باستمرار، بحيث ارتفعت أسعار السلع الغذائية الأساسية، فقط في الأشهر القليلة الأخيرة، بنسبة 160 %! وكل ذلك إنما يشكل مقدمات واضحة وصارخة لانفجار اجتماعي يتوقعه الكثيرون، ومعهم السلطة القائمة بالذات، التي أرعبتها فكرة الإضراب العام الذي كان يتم الإعداد له قبل السادس من نيسان/ ابريل، وحاولت الحيلولة دونه، قبل وقوعه، بشتى الوسائل، من الاعتقالات في صفوف الداعين إليه، إلى تصريحات المسؤولين الأمنيين وتهديداتهم، إلى استخدام النقابات الصفراء (وبوجه أخص اتحاد العمال التابع للسلطة، الذي ضغط رئيسه على القادة العماليين في شركة الغزل والنسيج بالمحلة الكبرى لاستيعاب النقمة العمالية ومنع المشاركة في الإضراب)، فإلى نشر أعداد هائلة من رجال الأمن في كل الأماكن الحساسة داخل المدن الكبرى، ولا سيما في العاصمة، كما في المراكز الصناعية المختلفة.

وهي بعد أن بدأت تظهر علامات نجاح، ولو نسبي، للدعوة إلى الإضراب، عمدت لاستخدام شتى وسائل القمع في مواجهة التظاهرات التي رافقت التوقف عن العمل، من الغاز المسيل للدموع، إلى الهراوات، إلى الرصاص المطاطي وحتى الرصاص الحي، بحيث أدى ذلك إلى سقوط العديد من القتلى وأكثر من 150 جريحاً، ناهيكم عن الاعتقالات التي طالت المئات ممن لا يزالون إلى الآن يقبعون في نظارات الأمن ومعتقلاته.

هذا ويمكن أن نخرج من الصورة العامة لما حدث في الإضراب الأخير، بخلاصات أساسية بين أهمها:

‌أ- الاستيعاب الشعبي للقمع السلطوي بشتى أشكاله، وسقوط أحد أهم العوائق المحتملة أمام تصاعد النضال الطبقي، المتمثل بحاجز الخوف. وقد بلغ ذلك حد التعبير الصريح عن الموقف العدائي حيال رأس السلطة، بحيث وصل إلى الهتاف بسقوطه، وتحطيم صوره، واستخدام تعابير تكشف مدى رفضه ورفض خليفته المحتمل، كما في اللازمة التي كان يكررها المتظاهرون، والتي تقول:

يا جمال قول لابوك / المحلة بيكرهوك!

‌ب- بروز المسألة الطبقية بصراحة، في الشعارات التي رافقت تحرك 6 ابريل، وطبيعة الصراع في مواجهة الطبقة السائدة. ومرة أخرى، وفي السياق التاريخي نفسه الذي أدى منذ الأربعينيات من القرن الماضي إلى ظهور اللجان المشتركة للطلاب والعمال، ارتفعت شعارات معبِّرة من مثل:

إحنا الطلبة والعمال ضد حكومة رأس المال

ولعلَّ الغلبة الواضحة للمسألة الطبقية هي التي أدت إلى ظهور فرز مكشوف، على صعيد القوى السياسية التي أيدت التحرك وتلك التي وقفت ضده. وهو ما ظهر في موقف الأخوان المسلمين الذين امتنعوا عن المشاركة فيه. وهو أمر يمكن فهمه إذا أخذنا بالاعتبار، ليس فقط الإيديولوجيا التي تحكم مواقف الأخوان وخياراتهم، بل كذلك كون شريحة مؤثرة من أعضاء الحركة ينتمون للطبقة المسيطرة وكبار المتمولين، عدا الجهات غير المنظمة التي تقدم للأخوان الدعم المالي.

‌ج- أن تحرك 6 نيسان يندرج في سيرورة من المرجح أن تتصاعد في مرحلة لاحقة. وبين مؤشرات ذلك إضراب التحدي الذي تمت الدعوة إليه بحيث يتم في 4 أيار/ مايو، اليوم بالذات الذي يحتفل فيه مبارك بذكرى مولده. وهذا الموعد بالذات الذي يصادف الأحد القادم هو الذي اختارته الهيئة المنخرطة مكوناتها في اللقاء اليساري التشاوري، للتعبير عن تضامن الشعب اللبناني وقواه الكادحة مع كفاح الشعب المصري لأجل قوته وكرامته الإنسانية، بحيث تتم خلاله تظاهرة أمام السفارة المصرية لهذه الغاية.

لبنان على طريق مصر؟

في مطلع هذه المقالة، أشرنا إلى واقع أن ثلاثة أيام فقط تفصل بين موعدي الإضراب المصري العام الوشيك، والإضراب الداعي إليه، في لبنان، الاتحاد العمالي العام، في السابع من أيار والذي تدعمه هذه المرة قوى اليسار المحلي، متمثلة بالحزب الشيوعي بالذات واللقاء اليساري التشاوري، المنخرط الآن في سيرورة وحدوية، بين احتمالاتها قيام حزب موحّد لليسار اللبناني.

وإذا كان إضراب السابع من أيار يرفع مطلباً أساسياً واحداً هو المتعلق بتصحيح الأجور، بما يتفق مع ارتفاع الأسعار منذ آخر تصدٍّ لهذه المسألة من جانب السلطة القائمة، في العام 1996، فإن السلطة الحالية برئاسة السنيورة، وبتواطؤ كامل مع أرباب العمل، لا تزال عند رفضها المطلب المشار إليه، ويجري الحديث عن زيادة للحد الأدنى للأجور لا تتجاوز في حدها الأقصى 50 % من الحد الأدنى الحالي، وعن زيادة مقطوعة ضئيلة بخصوص باقي الأجور لا تدخل في صلب الراتب.

ومن الواضح أن طبيعة الاتحاد العمالي العام، في واقعه الراهن، وبعد الضربات التي كيلت له على يد الوزارات الحريرية المتلاحقة خلال حقبة الوصاية السورية، وبتواطؤ مكشوف مع سلطة الوصاية المذكورة، لا تتيح له أن يخوض صداماً طبقياً حقيقياً مع حكومة السنيورة وأرباب العمل، وأن هذا الصدام هو ما يفترض أن يضطلع بالإعداد له والانتصار فيه اللقاء اليساري التشاوري. وهو أمر يصبح ممكناً بقدر ما ينجح هذا الأخير في بلورة برنامج طبقي متقدم، ومستوى راق ٍ من الوحدة النضالية، في أدنى الحدود، والتنظيمية الكاملة، في الحد الأقصى، على أساس البرنامج المشار إليه.

القيادة، مرة أخرى

بعد وقت طويل على طرد النظام الملكي المصري لهنري كورييل، المؤسس الأهم للحركة الشيوعية المصرية، في أربعينيات القرن الماضي، من مصر، كتب مسترجعاً نضالات الشعب المصري ضد الاحتلال البريطاني، التي لعب دوراً قيادياً أساسياً فيها:

«في ذلك الحين، يمكن القول إن الجماهير كانت مستعدة للحاق بنا. ولكننا لم نكن نعرف إلى أين نقودها. كان انعدام الخبرة لدينا كاملاً (...). يمكن أن يؤخذ ذلك علينا، لكن ينبغي تذكُّر أنه لم تكن لدينا غير ستة أشهر من التجربة في القيادة السياسية وأننا كنا إزاء وضع داخلي يمكن وصفه بالفوضى الكلية». ويوضح في مكان آخر: «لم يكن عدد كوادرنا القياديين يبلغ العشرين والأقدم بينهم كان لهم أقل من ثلاث سنوات من النشاط داخل منظمة في سن الطفولة». وهكذا، وبحسب جيل بيرو، فخلال «بضعة أسابيع فكك صدقي باشا اللجنة الوطنية، بأن دق إسفيناً بين العمال والطلاب غير الشيوعيين، وقطعها عن قاعدتها عن طريق قمع انتقائي، وأزال اللجان المحلية الواحدة بعد الأخرى».

ثمة حراك جماهيري، وعمالي، مؤثر وواعد جداً في مصر الحالية، وهو ما يمكن السعي لكي يحصل بالفعل، كذلك، في لبنان بدءاً من أيار/ مايو الحالي. وفي الحالتين، فإن مسألة القيادة، والبرنامج أيضاً، تنطرح بشدَّة. وهي قيادة لا بد من أن يكون الشيوعيون – ببرنامجهم الأكثر تقدماً، وبالعلاقات الديمقراطية التنظيمية التي يجب أن تسود العلاقة، ليس فقط داخلهم بل كذلك بينهم وبين حركة الجماهير – في القلب منها. وبمقدار ما يمكن أن يحصل ذلك، يمكن الأمل بألا تكون هناك بعد الآن فُرَصٌ ضائعة، وبأن المستقبل سيكون هذه المرة، لما يعد به الصراع الوحيد الواعد والمنسجم تماماً مع مصالح أوسع الجماهير، عنينا صراع الطبقات بأشكاله المختلفة، وأحدها بلا ريب هو الصراع الوطني في مواجهة الإمبريالية العالمية وإسرائيل.

0 comments:



Copyright 2008| FARFAHINNE is powered by Blogger and K2 Beta Two by يساري مصري.
RSS Entries and RSS Comments